يقول الأب إسطفانوس دانيال جرجس
راعي كنيسة مار مرقس الرسول للأقباط الكاثوليك بالجلاوية عن مسألة صكوك الغفرانات والفهم الصحيح لها:
في حبرية قداسة البابا يوليوس الثاني (1503 -1513م) وهو يُعد في سلسلة بابوات الكنيسة الكاثوليكية رقم «215»، وهذا الحبر الرومانيّ كان متشبعًا بروح النهضة الحديثة فأحبّ العلوم والفنون وشجع العلماء والفنانين، وأراد أن تكون روما تحفة في العظمة والأبهة. فقد فكّر قداسته في هدم كنيسة القديس بطرس الرسول التي قد شيدها الإمبراطور قسطنطين على قبر القديس المذكور، وأن بناء هذه الكنيسة لا تضاهيها كنيسة في رونقها، وفخامتها حتى تليق بعظمة هامة الرسل القديس بطرس الرسول، ومكانة خليفته على الأرض.
وأضاف: كلف السعيد الذكر البابا يوليوس الثاني الفنان برامانت بالإشراف على تشيدها. وفي سنة 1506م، ثم وضع الحجر الأساس لأكبر كنيسة في العالم تتسع من 000و50 إلى 000و80 مصلّى، وبعد موت برامانت سنة 1514م أكمل العمل الفنانان روفائيل، ومايكل أنجلوا، ولتغطية التكاليف المادية لهذا المشروع أمر البابا يوليوس الثاني بأن كل من يزور المكان هذا يمارس سريّ المصالحة والتناول المقدس، ويساهم بجزء من الماديات لهذا المشروع (العشور). وعندما تنيح البابا المذكور وخلفه الحبر الروماني البابا لاون العاشر (1513- 1521م). وهو يُعد في سلسلة خلفاء القديس بطرس الرسول رقم «216»، جدد الأمر المذكور.
وفي 31 من شهر مايو لسنة 1515م أصدر البابا لاون العاشر قرارًا أنّ كلّ من يحج الكاتدرائية الجديدة بأن يدفع العشور بإيصالات ببيع لتمويل إصلاحات كاتدرائيّة القدّيس بطرس الرسول وأن يمارس الدافع لها سرّي المصالحة والتناول المقدّس.
وفي يومنا هذا نجد بعض المؤمنين يقوموا بزيارة أحد الأديرة أو الكنائس ويمارس سريّ الإفخارستيا وسر المصالحة(الاعتراف)، ويدفع جزء من عشوره لترميمات الدير أو للكنيسة. فهل هذا المؤمن اشترى بعشوره هذه جزء من الملكوت ببمارسته سريّ الإفخارستيا وسر المصالحة(الاعتراف)؟
وأن الكنيسة الكاثوليكية وعلماؤها اللاهوتيين لم يكونوا بالغباء الذي يصوره للناس بأن يمنحوا غفرانات لمدد معينة أو محددة يستطيع كل واحد أن يخطأ في هذه المدة كما يشاء فلديه الغفران مقدمًا. ولكنّ لذلك أساس مقبول ومعقول.
إن الكتاب المقدس يعلمنا أن الخطيئة التي تغفر لابد لها من قصاص تكفيرا وتعويضا للعدل الإلهي لأن الله الرحيم هو أيضا عادل وكل صفة في الله لا تتغلب على الأخرى.
من هنا يمكن القول إن الخطيئة لها شقان:
• الشق الأول هو الذنب.
• والشق الثاني هو القصاص وكلاهما يختلف عن الآخر.
• فالشق الأول يُغفر حالاً بالتوبة أثناء الاعتراف ونوال الحلة من الكاهن،
• أما الشق الثاني فأثره بعيد ولا بد من التكفير الطويل حسب جرم الذنب.
وحتى أُوَضِّح أكثر إليكم الأمثلة من الكتاب المقدس.
نقرأ في سفر صموئيل الثاني الفصلين الحادي عشر والثاني عشر قصة سقوط داود النبي مع زوجة أوريا الحثى. وإني أختصر القصة بالآتي ومن يريد الاطلاع عليها كاملة ما عليه إلاَّ أن يقرأها في المرجع المذكور.
سقط داود مع إمرأة أوريا الحثى فحبلت منه وكان زوجها في الحرب ولما عَلِم الملك بذلك أراد أن يُغطى موقفه فاستدعى زوجها من الميدان وطلب منه أن ينام في بيته مع زوجته فرفض أوريا. وأمام هذه الفضيحة أراد أن يُغطيها بجريمة وأمر قائد جيشه أن يترك أوريا الحثى في المواجهة ليُقتل. ثم ضم زوجة أوريا الحثى إلى زوجاته.
فأرسل إليه الرب ناثان النبيّ وبعد المحادثة فهم داود خطيئته فندم واعترف بذنبه أمام ناثان النبيّ. فقال له ناثان: «فقالَ داوُدُ لِناتأَنَّ: «قد خَطِئتُ إِلى الرَّبّ». فقالَ ناتأَنَّ لِداود: «أَنَّ الرَّبَّ أَيضاً قد نَقَلَ خطيئَتَكَ عنكَ، فلا تَموت» (2صمو12: 13) ولكن القصاص الذي تستوجبه الخطيئة هو: كما فضح داود زوجة أوريا سراً تُفضح نساؤه علانية وكما قتل أوريا ظلماً تكون أيامه كلها حروب فالسيف لا يُفارق بيته كل أيام حياته وهكذا صار. ولم يرفع الله عنه القصاص رغم دموعه وصلواته وطهارة قلبه التي شهد عنها الرب قائلاً لم أجد قلباً مثل قلب داود عبدي.
فيظهر من ذلك أنه بعد الغفران من الذنب، على الخاطئ أن يُكَفِّر عن هذا الذنب والتكفير أنواع منه الصوم والصلاة والصدقة
مثل آخر عن أهل نينوى فانهم بصلواتهم وصومهم التكفيري ثلاثة أيام كاملة جعل الرب يرفع غضبه عنهم ويسامحهم.
مثل ثالث من الكتاب المقدس عن زكا العشار فإنه كفر عن خطيئته وهي الظلم إذ قال: من ظلمته شيئاً أُعَوِّضه أربعة أضعاف وليس هذا فقط ولكنه يُكمل بالصدقة إذ يقول: وأعطى أموالى للمساكين ولذا قال الرب: اليوم صار خلاص لهذا البيت لأنه هو أيضاً ابن إبراهيم (لو19: 1-10)
وقد فهمت الكنيسة وجماعة المؤمنين في أوائل عهدهم بالمسيحية هذا القانون الإلهي. ولذا كانت تفرض عقوبات جسدية ومادية حسب تقدير الكنيسة للذنب بما أُعطىَ لها من سلطان. فكان البعض يُحرم من دخول الكنيسة لمدة شهر أو أربعين يوماً أو سنة أو أكثر أو أقل حسب جُرم الخطيئة. وكانت تُفرض على البعض حضور المراسيم الكنسية جاثياً على ركبتيه لعدد من المرات. وكما كان يُحرم البعض من تناول الأسرار وقتاً من الزمن يطول ويقصر. والمُطَّلِع البصير يمكنه أن يستوعب كل هذا الكلام فما عليه إلاَّ أن يرجع إلى سير الآباء القديسين وقوانين الكنيسة في الأجيال الأولى.
واتسع نطاق المسيحية وقلت التقوى والفضيلة في النفوس وبدأ البعض يتشكك من هذه القصاصات الظاهرية فاستبدلتها الكنيسة بأشياء سرية مثل الصلاة والصوم والصدقة.
ولكن قلة ذات اليد عند البعض كانت تقف حائلاً دون إتمام القصاص المفروض. وحيث أن الكنيسة هي الأم الرحوم استبدلت كل هذه بصلوات من يتلوها يُغفر له من القصاص الذي كان في الأصل يُفرض على مثل هذه الحالات. مثلاً المائة يوم أو الشهر أو السنة التي كان مفروضاً أن يقفها خارج الكنيسة أو يُحرم فيها من تناول الأسرار المقدسة. وهكذا رتبت بعض الصلوات لمن يتلوها البعض يفي قصاص مائة يوم أو شهر أو سنة أو غفران كامل.
من هنا نعلم أن هذه الغفرانات ليست غُفراناً من الذنب لأن الذنب لا يُغفر إلاَّ بالتوبة والاعتراف ونوال الحل، ولكنه غُفران من القصاص المُترتب على الذنب الذي غُفر بواسطة الندامة والاعتراف.
هذا ما تفعله الكنيسة الكاثوليكية بموجب السلطان المُعطى لها من السيد المسيح الذي قال ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطاً وما حللتموه على الأرض يكون محلولاً. ولم يُقيد الكنيسة ضوابط محددة بل ترك لرسله الحرية في تحديد ما يرونه مناسبًا.
إذًا شرعت الكنيسة الرومانية في بناء أضخم كنيسة في العالم وأغناها من حيث الفن والإبداع. وكان من المفروض على جماعة المسيحيين في العالم أن يُساهموا في تكاليف هذا المشروع.
فأرسلت الكنيسة نداء إلى المؤمنين تقول فيه: أن من يحج إلى روما ويُساهم في بناء الكنيسة ويعترف ويتناول القربان المقدس ينال غفرانًا عن خطاياه.
وتفسير ذلك:
أولاً: اشترطت الكنيسة على الحجاج الاعتراف والتناول. وهذا وحده كاف لمغفرة الذنوب دون الحج.
ثانياً: كونها اشترطت الحج إلى روما حتى يشاهد المؤمن على الطبيعة هذا العمل المعماري والفني العظيم الذي سوف يُساهم في تشييده ويكون مُطمئناً إلى أن ما يدفعه هو على أساس سليم.
ثالثاً: وهو في زيارته إلى روما يتبرع بقسط من أمواله وهذا بنية التكفير عن القصاصات المُتبقية على الذنب الذي غُفِر بالاعتراف والتناول كما فعل زكا العشار بتقديم نصف أمواله للمساكين كفارة عن ذنوبه وبهذا ومع توبته نال الخلاص. سيما وأن الصدقة هي ركن من أركان المسيحية. والصدقة تجوز على الفقراء وعلى المنشآت الخيرية ونحن في هذه الحالة لا نُسميها صدقة ولكن مُساهمة في عمل الخير.
رابعاً: ومن البديهي والمفروض ان كل من يدفع شيئاً يأخذ إيصالاً بما دفع. وهذا الإيصال يُثبت انه اعترف وتناول الأسرار المقدسة وساهم في عمل الخير. وهذه الإيصالات كانت ضرورية لمُحاسبة القائمين على جمع التبرعات. فالنذور لا يُعطى به عادةً إيصال ولكن التبرع لا بد له من إيصالات. وهذا ما تسير عليه الكنيسة الأرثوذكسية لضبط الحسابات في أي مشروع. ولكن أعداء الكنيسة اتخذوا من هذا العمل مادة للتشهير والافتراء ليُشوهوا وجه الحقيقة.
خامساً: ان الناس يحجون إلى بيوت الله سواء المسيحيين منهم إلى بيت المقدس أو المسلمين إلى مكة المكرمة طبعاً للتبرك والتكفير عن الذنب وهذا ما فعلته الكنيسة الكاثوليكية عندما طلبت من الناس الحج إلى روما والمساهمة في بناء بيت الرب.
سادساً: ومن جهة أخرى لم يكن الناس من البلاهة حتى يُصدقوا انهم يشترون الغفران بالمال. فلو كانت الكنيسة مُخطئة فالناس ليسوا جميعاً حمقى بهذه الدرجة التي يفترى بها علينا.
فأي إنسان غير مُغرِض لا يجد في هذا العمل أي مخالفة لمبادئ الديانة المسيحية ولا أي مساس بالسلطة المُعطاة من السيد المسيح والتي أُعطيت بدون قيد أو شرط حتى انه قال في مكان ما في الإنجيل من لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كوثنيّ وعشار. فهل في مُباشرة الكنيسة لسلطاتها خروج على قواعد الدين؟ ان الناقد الحقيقي لا يكتفى بأن يقرأ ما كتبه أعداء الكنيسة ولكن عليه أن يقرأ ما جاء في التاريخ المحايد وبعد ذلك عليه أن يُقارن ويحكم بما يراه صادقا ومع ذلك فعقيدة الكنيسة الكاثوليكية هي العقيدة الرسولية المبنية على تعاليم الرسل ولا تحيد عنها. فإن كان البعض أولوا بعض التعبيرات تأويلات خاطئة فاللوم لا يقع على الكنيسة الكاثوليكية ولكن على ذوي النوايا السيئة.