الفن لا يمكن أن يعيش بلا حرية، وهو وثيق الصلة بالصراع بين الخير والشر والقبح والجمال قوام الحياة الإنسانية ، وتثير بعض الأعمال الفنية من بين الحين والأخر صخبا مجتمعيا كبيرا إذا ما مست تقاليد المجتمع وأخلاقياته من وجهة نظر الرأى العام ولا يراه الفنانون كذلك، مما يثير التشابك بين الطرفين ويلزم فض هذا التشابك من طرف محايد بسياج القانون المنظم لحياة المجتمعات.
ويثور التساؤل حول مدى حرية الفن.. وهل يتجرد من كل شئ ويصبح مطلقا أيًا كان أم يتقيد بضوابط تحد من حريته لصالح المجتمعات؟ .. نجد الإجابة على هذه التساؤلات فى أحدث دراسة قانونية متميزة على مستوى عالمنا العربى للمستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة، بعنوان: "مدى حرية الفن بين محاكمة الإبداع والمقومات الأساسية للأمة المصرية"، ونعرض للجزء الثانى من تلك الدراسة المهمة لفض التشابك بين الرأى العام وأهل الفن فى ستة عناصر فيما يلي:
أولاً : حرية الإبداع الفني لا يحدها سوى حماية الأداب العامة والنظام العام ومصالح الدولة العليا:
وقال الفقيه المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى، إن المشرع أطلق حرية الإبداع الفني في مجال الفن السينمائي، إلا أنه قيد هذا الإطلاق بحدود الماده (1) من القانون رقم 430 لسنة 1955 بتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحرى والأغانى والمسرحيات والمنولوجات والاسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتى على سبيل الحصر وهي:
حماية الآداب العامة والمحافظة على الأمن والنظام العام ومصالح الدولة العليا، فلا يجوز أن يتناول العمل الفنى ما يمس أداب المجتمع ويخرق أخلاقياته، أو ما يحض على الرذيلة وإثارة الفُحش بين الناس، أو ما يدعو الناس إلى الإخلال بالنظام العام والإضرار بمصالح الدولة العليا، فإذا ما خرج المصنف الفنى السينمائي عن أحد هذه الحدود عُد خارجاً عن المقومات الأساسية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية التي يحميها الدستور والتي تعلو وتسمو دائماً في مجال الرعاية والحماية على ما تتطلبه الحرية الفردية الخاصة.
وأضاف خفاجي أن فكرة النظام العام ومصالح الدولة العليا فكرة مرنة تتطور بتطور الأزمنة , فقد تتعلق بذات المصنف أو بجمهور المشاهدين أو بالحالة العامة للدولة أو المجتمع، فما يمكن قبوله وقت السلم قد يتعارض مع النظام العام في حالة الطواريء أو الحرب. وما قد لا يؤثر في مصلحة الدولة العليا وقت العلاقات السلمية مع إحدى الدول قد لا يسوغ عند قطع العلاقات مع إحداها أو بعضها .
وأوضح أن ما قد يباح في حالة قطع العلاقات مع دولة أو أكثر لوجود حالة حرب أو انقطاع العلاقات لا يسوغ في حالة عودة هذه العلاقات , وهكذا يجب مراعاة المبادىء والقيم المتقدمة جميعاً دون افراط في تقييد حرية التعبير والرأي على خلاف الدستور والقانون، ودون تفريط في المقومات الأساسية الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة المصرية ، وفقاً لما حدده الدستور ورسمه القانون.
ثانيًا: الأفلام الهابطة ذات المشاهد الفاضحة والحفلات الساقطة تصريحاً وتلميحاً خروجاً على التقاليد والقيم التى تصون لها الدستور تعد نصلاً لخدش الحياء، وسهماً مصوباً لقتل الفضائل ومكارم الأخلاق :
وأشار المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى، إلى أن المادة الأولى من القانون رقم 430 لسنة 1955 بتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحرى والأغانى والمسرحيات والمنولوجات والاسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتى تنص على أن تخضع للرقابة الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحرى والمسرحيات والمنولوجات والأغانى والأشرطة الصوتية والاسطوانات أو ما يماثلها وذلك بقصد حماية الأداب العامة والمحافظة على الأمن والنظام العام ومصالح الدولة العليا، وغدت معه تلك النوعية من الأفلام الهابطة ذات المشاهد الفاضحة وعبارات بعض أغانى المهرجانات والحفلات الساقطة تصريحاً وتلميحاً خروجاً على التقاليد والقيم التى خصها الدستور بالرعاية وأوجب على الكافة مراعاتها والتصون لها، ومعولاً لهدم القيم الأصيلة في المجتمع، ونصلًا لخدش الحياء، وسهمًا مصوبًا لقتل الفضائل ومكارم الأخلاق فيه، بما يقتضى استنهاض همم الأجهزة الفنية الرقابية للقيام بدورها دون مواربة إزاء ما أصاب عدد غير قليل من شباب المجتمع وناشئيه من انحلال الخُلق وفقدان القيم.
ثالثاً: حرية العمل الفنى فى معالجته للواقع الاجتماعى مقيدة بالنظام الخُلقي وحماية الاحتشام العام:
وأكد المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى أن العمل الفنى يلتزم فى معالجته للواقع الاجتماعى بالنظام العام الخُلقي وحماية الاحتشام العام، فمضمون النظام العام الخُلقي ومبادئه الاجتماعية يؤكد أن الدستور والقانون لا يتضمنان فقط الإشارة إلى أي منها ، بل إلى بيان وتأكيد الهدف منها، وهو حفظ الفضيلة والتي تتحدد من خلال مفهوم المجتمعات نفسها لهذا المعنى من خلال موقفها ومدى تقبلها لعمل ما خضوعاً واتفاقاً مع العادات والتقاليد المستقرة التي تعارف عليها المجتمع قبولاً أو رفضاً في الغالبية العظمی من أفراده، وليس بحسب معيار أو رؤية محددة لقلة منه؟
وذكر في هذا النطاق إنه يتعين الالتزام بحماية الاحتشام العام، أى القيم والمبادىء الأخلاقية العامة التي يتقبلها المجتمع بالأغلبية الساحقة منه ، ويعتبرها من تقاليده التي تحمي مصالحه , وهو ما يحتم منع السلوك الخارجي للإنسان الذي يمثل بتصرف منه خروجاً على المألوف وتقاليد المجتمع وإحراجاً للمشاهد , وبهذه المثابة يلتزم العمل الفنى على تنوعاته وفروعه بمراعاة ما يقدمه من مادة فنية تتوافق مع صحيح وواقع القيم الخلقية السائدة في المجتمع، ولا تتعارض مع القيم الدينية الرفيعة التي يقوم عليها نظام الأسرة المصرية التى جعلها الدستور أساس المجتمع .
رابعاً : الفن حياة الشعوب وخطورته أن ثقافة النشء تتكون من مفرداته :
وأوضح المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى أن الفن حياة الشعوب وخطورته أن ثقافة النشء تتكون من مفرداته , لذا تهتم الدول المتقدمة بالسينما والمسرح وتمنحها أهمية كبرى فى بناء الشباب , إذ تتكون المادة التي تتشكل منها ثقافة النشء من فروع متعددة أخصها ثلاثة عناصر :- الأول الفنون : وتتكون من " الرسم و النحت و الموسيقى العالمية والمحلية والأغاني على اختلاف تنوعها و الأناشيد و الأوبرا و عروض الفولكلور والسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون حتى مسرح العرائس.الثانى الأدب: ويتكون من القصة القصيرة والطويلة والشعر الحديث منه والقديم التقليدي والشعبي والزجل والمقالات والبحوث الأدبية ومجلات الأطفال.والثالث المعارف العلمية: وتتكون من الموسوعات العلمية والكتب فى مختلف فروع المعرفة والحاسب الآلي والندوات العلمية والمحاضرات وأفلام السينما والفيديو العلمية أياً كانت المنصة التقنية التى تعرض فيها .
خامساً : يجب على أهل الفن ألا يتجاهلوا أن النسبة الغالبة لجمهورهم من النشء ودستور الفن يحدد المعانى السامية التى يجب أن تزكى قيمة عليا من قيم المجتمع فى نفوسهم
وقال: يجب على أهل الفن ألا يتجاهلوا أن النسبة الغالبة لجمهورهم من النشء ويجب أن تزكى فنونهم للنشء قيمة عليا من قيم المجتمع فى نفوسهم , وأوجب المشرع أن يراعى فى اختيار المادة الثقافية وعلى قمتها الفنون التي تقدم للنشء اختيار المادة التي تزكى قيمة عليا من قيم المجتمع ، وتعد القيمة كذلك إذا كانت بما تبعثه فى نفس النشء وتبلور إحساساً وشعوراً رفيعا لمعنى من المعاني السامية .
وأضاف أن رسالة الفن فى المعاني السامية التى يرمى إليها , وهى على كثرتها تعتبر دستوراً للفن , وأخص هذه المعاني:- المعاني التي تجسد قيمة العقل وأهمية الإبداع , والمعاني التي تتعلق بقيم الحق والعدل والشجاعة , والمعاني التي تشرح القيم الإنسانية الرفيعة فى المساواة بين الناس كافة واحترام الآخرين وجوداً ورأياً وحرية وتقبل الآخر بصرف النظر عن جنسه أو دينه أو عنصره، أو أصله الاجتماعي، أو إعاقته، أو أي وجه آخر من وجوه التمييز , والمعاني التي تبرز ما فى الأديان السماوية من قيم الوحدة الوطنية والصدق والطهارة والإخلاص والمحبة والإيثار والتسامح والرحمة، والمعاني التي تبلور عظمة البحث العلمي أهمية التفاني فيه والربط بين أهدافه ومراميه وبين خير الإنسانية وسعادتها ورفاهيتها وخير الوطن وأبنائه ورفاهيتهم وسعادتهم , والمعاني التي تربط بين الوطنية والوطن وكل أو بعض المعاني السابقة بما يكفل إعلاء الانتماء والولاء لمصر.
سادساً : يحظر على الفنون الإثارة الجنسية البحتة أو تحبيذ الانحراف أو الشذوذ الجنسي أو تمجيد أصحاب الشهرة فى عالم الجريمة أو تمجيد التعصب أو العنف أو إعلاء المال أو القوة على قيم الحق والأمانة والنزاهة والرحمة والوفاء
وأكد خفاجى أن المشرع يحظر على الفنون الإثارة الجنسية البحتة أو تحبيذ الانحراف أو الشذوذ الجنسي أو تمجيد أصحاب الشهرة فى عالم الجريمة أو تمجيد التعصب أو العنف أو إعلاء المال أو القوة على قيم الحق والأمانة والنزاهة والرحمة والوفاء , ويحظر على الفنون إثارة الغرائز الدنيا خاصة للنشء الفئة العريضة لجمهور الفنانين أو تزين لهم السلوكيات المخالفة للقيم السامية والمبادئ العليا أو تشجيعهم علي الانحراف .
وقد تعارفت السينما المصرية العريقة منذ نشأتها عملاقة على حظر الفنون إثارة للغرائز الدنيا سيما للنشء أو تزين لهم السلوكيات المخالفة للقيم السامية والمبادئ العليا أو تشجيعهم علي الانحراف وهى أيضا على كثرتها ومن أمثلتها :- الإثارة الجنسية البحتة أو تحبيذ الانحراف أو الشذوذ الجنسي. أو تمجيد أصحاب الشهرة فى عالم الجريمة. أو تحقير المخالفين لأغلبية النشء فى الجنس أو اللغة أو اللون أو الديانة أو الجنسية. أو تمجيد التعصب لرأى معين لفئة أو مذهب أو طائفة بعينها. أو تمجيد العنف أو الجريمة أو إضفاء أوصاف على أيهما تجعله محببا لنفوس النشء. أو إثارة شهوة النشء لإعلاء أهداف بعينيها كالمال أو القوة على قيم الحق والأمانة والنزاهة والرحمة والوفاء. كما يحظر على دور السينما وما يماثلها أن تعرض على النشء أية أشرطة سينمائية أو مسرحيات أو عروض أو أغاني أو أشرطة صوتية أو مرئية أو أسطوانات تنطوي بشكل صريح أو ضمني على ما يخالف المعاني المشار إليها أو تستهدف إثارة أمر من الأمور سالفة البيان أو تثير الرعب والفزع فى نفوسهم أو تصور لهم الخرافات أو الأوهام المخالفة للعلم والعقل والدين باعتبارها من الحقائق.
وسوف نعرض غداً للجزء الثالث من الدراسة المهمة عربياً للمستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى لفض التشابك بين الرأى العام وأهل الفن بعنوان" مدى حرية الفن بين محاكمة الإبداع ومقومات الأمة المصرية".