زرت عشرات من دول العالم شرقا وغربا، من موسكو إلى أمريكا، لكن مصر دائما كانت في القلب، وفي رحلتي الأخيرة إلى موسكو تجسدت مصر بالنسبة لي في عمق ذكريات حاضرة، استعنت بها تقطع المسافات إلى واقع معاش، وكأني أعيش في جنوب مصر في بلدتي المنيا.
في البدء أذاب الجليد الموسكوفي ، ضحكات أحفادي بولينا وارساني وصوفيا، ودفء ترحاب ابنتي انجيلا "انجيليكا" وزوجها الكسندر "ساشا".
كان لا بد أن أزور كليتي الإعلام وأترحم على أبرز من علموني الصحافة والبحث "يسين نيقولايفتش زاسوركي" ، الذي كان عميدًا ثم رئيسًا لكلية الإعلام جامعة موسكو منذ عام 1953- 2017 ليكون بذلك أكثر عمداء الكليات بقاءً في منصبه على مستوى العالم، حيث شهد خلال فترة عمله رؤساء الاتحاد السوفيتى السابق منذ ستالين حتى تفكك الاتحاد السوفيتى ثم رؤساء روسيا الاتحادية مع بداية العهد الجديد بعد التفكك.
عميد الإعلاميين الروس الذي تخرج على يديه أجيال وتحولت الكلية في عهده إلى حلم لمئات الشباب من داخل روسيا وخارجها للالتحاق بها، فقد اتسمت بالمستوى التعليمى العالى والإمكانيات المتميزة على المستوى الأكاديمى والتطبيقى للدراسة.
ومن مصر الأصدقاء شريف جاد، رئيس الجمعية المصرية – الاتحاد العربى لخريجى الجامعات الروسية، والأكاديمية د. عزة الخميسي ابنة الشاعر والفنان الكبير عبد الرحمن الخميسي ، والد كتور يوسف الجندي، ابن المناضل محمد الجندي وحفيد احد ابرز ثورة 1919 ومفجر جمهورية زفتى.
كان زاسورسكي رمزا للاكاديمي القاتل حيث كان احد المقاتلين
وأبطال الحرب، التى تسمى فى روسيا «الوطنية العظمى» «الحرب العالمية الثانية»، والتى دفع فيها العالم 40 مليون شهيد منهم 28 مليونا من دول الاتحاد السوفيتى السابق «15 دولة»، دفعت روسيا 20 مليون شهيد من بين الـ28، وهناك ملايين القصص البطولية لمن دفعوا حياتهم، فيما يسمى «أدب الحرب»، وللانتصار قصة، حيث وصل جحافل النازى إلى حدود روسيا، وأثناء بث العدو روح الخوف بين الروس، ظهر الزعيم السوفيتى «ستالين» أمام الجماهير التى تراجعت، وشكلت هجوما مضادا من 1943 وحتى اجتياح القوات السوفيتية لبرلين ودحر الفاشية، وبرزت معركة «ستالنجراد» كرمز للبطولة، وبعدها عاد المقاتل المنتصر ليدرس الاعلام ثم عميدا للكلية من 1953 حتي رحيلة، 92 عاما منهم 70 في النضال العلمي والعسكري والحزبي.
وتذكرت الزيارة الثالثة للرئيس السيسي لموسكو بدعوة من الكريملنا تلك الزيارة التي لا يدعي لها سوي ابطال الحرب علي الفاشية ، وجأت زيارة بطلنا السيسى روسيا كرمز لمصر التى تدفع كل يوم شهداء وضحايا ضد النازية الجديدة وهى «الفاشية الدينية»، وتقاتل على كل الحدود بيت المقدس شمالا، وأنصار الشريعة غربا، والإخوان جنوبا، وداعش شرقا، تخوض مصر حربا يدفع فيها كل بيت مصرى ضحايا ما بين شهداء وجرحى، وكما كانت معركة «ستالنجراد» فاصلة لروسيا، ستكون معركة سيناء فاصلة لمصر، وحول الانتصار الروسى كان من أبرز الأفلام فيلم «روسيا لا تعرف الدموع».. هكذا مصر التى لا تعرف الدموع.. هكذا تبدو دلالة زيارة البطل السيسى الثالثة لروسيا، لا يحتاج الأمر إلى قول إن الزيارة ستبحث سبل دعم روسيا لمصر من أجل انتصار مصر على الفاشية الجديدة بكل السبل العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، خاصة أن العدو الجديد لو لم يهزم فى مصر فسوف يهدد روسيا وشرق أوروبا والجمهوريات الإسلامية والعالم أجمع.
نعود إلى فيلم موسكو لاتعرف الدموع، كان ظاهرة سينمائية في البلدان التي عرض فيها. الفيلم دبلج إلى عدة لغات وعرض في نحو سبعين بلدًا وفاز بعدد من الجوائز منها جائزة أحسن ممثلة لفيرا ألينتوفا، وجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي لعام 1981 وعدد آخر من الجوائز.
المخرج "منشوف" اوصل إلينا الفيلم بإنسانيته بفيلم عن العلاقات الإنسانية وعن إعادة تعريف “الحب” من خلال قصة ثلاث نساء تغطي عشرين عامًا كاملة من حياتهن.
كان ذلك اول الافلام التي شاهدتها في دار عرض جامعة موسكو بدعوة من صديقي د شريف جاد.
كنت اسكن بجوار صديقي شريف بمبني السكن الجامعي، والجامعة تعتبر أحد مراكز العلم والثقافة الوطنية. وقد سميت تكريما لميخائيل فاسيليفيتش لومونوسوف عام 1940.
اقتُرح إنشاء الجامعة من طرف الاساتذة إيفان شوفالوفيم وميخائيل لومونوسوف، حيث تم التوقيع على مرسوم إنشاء الجامعة من قبل الإمبراطورة إليزابيتا بيتروفنا في 12 (23) يناير 1755، وفي ذكرى يوم التوقيع على المرسوم تقوم كل عام في الجامعة ذكرى القديسة تاتيانا - 12 يناير وفقا للتقويم اليولياني، اما في التقويم الغريغوري ففي 25 يناير القرن العشرون والحادي والعشرون وقد كان القاء أولى المحاضرات في الجامعة في 26 أبريل عام 1755، وأصبح الشريف شوفالوف أول امين للجامعة، والكسي ارغاماكوف (1711-1757) أول مدير لها.
تضم 15 معهدا للبحوث العلمية و40 كلية وأكثر من 300 هيئة تدريسية. وللجامعة 6 فروع بما في ذلك خمسة في الخارج. كما يدرس في الجامعة نحو 50 الف طالب في المرحلة الجامعية ومرحلة الدراسات العليا والتخصصات، و10 الاف طالب في الدراسات العليا والمرشحين وحملة الدكتوراه و10000 طالبا في الكليات التحضيرية، ما مجموعه نحو 50000 طالب. كما يدرس في الكليات والمراكز البحثية 4000 من الأساتذة والمعلمين و5000 من الباحثين. اما موظفو المساعدة والدعم فهم حوالي 15000 شخص، وتمتلك الجامعة تحت تصرفها أكثر من 600 من المباني والمنشآت.
ومابين الجامعة واحفادي واصدقائي استعدت كل ذكرياتي من 1978 وحتي 1987، عشرة سنوات من الحب والحزن والدراسة، لم اشعر فيها ابدا بالجليد لان قلوب الموسكوفيين كانت تذيب الجليد، ولازلت لا استطيع ان انسي مسارح ونوادي ومعارض موسكو خاصة "البلشوي تياتر"، هناك تفتحت عيوني علي جنة فنية لازالت لازلت لاتغادر مخيلتي، ودروب الادب الروسي التي سلكت منها الي عالم ديستويفسكي وشخصياتة التي كانت (عاهرة وداعرة ومريضة ولكنها امتلكت مصائرها حتي الموت) وعلي الجهة الاخري تورجينف (قلب الرومانسية الروسية) وتولستوي (صاحب الحرب والسلام)وجوجل(وعوالم فليسوف الادب لموسكو الخفية) وجوركي (صاحب الام ومبعث النضال)وايتماتوف (صاحب المعلم الاول ووداعا جولساري)وزيفاجو (شاعر الحزن والثورة)، وسيرجي يسنين، ومايكوفسكي (الذين انتحروا ولازالت قصائدهم تبكيهم).
وآخرون قادني اليهم الصديق القائد والمترجم ابو بكر يوسف الذي لازال يعيش فينا بترجماته وحياتة النضالية التي تحتاج الي الكتابة عنها كونة كان عميد المصريين في موسكو، لازال وجهة لايغادر مخيلتي، والشاعر العظيم عبد الرحمن الخميسي الذي ادركت في قربي منه معني الدفء الانساني وحب ومصر، لايفارقني جلجلة ضحكتة التي كانت تمتزج بدموع الغربة وتزرع الامل في العودة الي الوطن المحرم.
هكذا كانت موسكو مدرسة لتربيتي حيث اعيدت ولادتي هناك ما بين الميدان الاحمر وضريح لينين ونهر الفولجا، وستظل موسكو العاصمة الثانية بعد مدينتي ومسقط راسي المنيا، ستظل في قلبي ورغم انها لاتعرف الدموع الا انني حينما اتذكر اول رشفة فودكا اشعر ان كل شئ غاب من ذاكرتي الا حركتها في احشائي كجركة الجنين الاولي في بطن امه، موسكو جليد لا يعرف البرودة عبر الدفء الانساني النبيل.