الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لو كنت قد قبلتك لما كتبت قصيدة.. الرومانتيكيون الجدد في الإمارات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

وأنا أطالع عددا من عناوين الأعمال الشعرية المشاركة من قبل الناشرين الإماراتيين في الدورة الــ 53 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب التي تنطلق فعاليالتها في الفترة من 26 يناير إلى 6 فبراير، والذي تزداد عدد مشاركات دور النشر الإماراتية فيها مقارنة بالأعوام السابقة؛ استوقفني ديوان للشاعر علي المازمي بعنوان "قبر الغراب" الصادر عن دار رواشن الإمارتية للنشر، وكنت قد اطلعت على هذا الديوان خلال العام 2021 وأثارتني كتابته لتدوين ملاحظاتي عليه حينها، مجرد ملاحظات دونتها على ورق وتركتها، لكن المشاركة القوية التي شهدتها هذا العام للناشرين الإماراتيين في المعرض أحيت تلك الملاحظات في رأسي وبلورتها للنشر الصحفي، لتكون هذه الكتابة مدخلا للقارئ المصري وزائر معرض الكتاب إلى عالم الإبداع الإماراتي وهم كتَّابه المعاصرين.
فالإبداع الإماراتي بالنسبة للمصريين هو أرض خصبة جديرة بالاكتشاف وتسليط الضوء دائما؛ فمنذ بزوغ نجم الجيل الأول في الأدب الإماراتي الفصيح -جيل أحمد راشد ثان وحبيب الصايغ وعبد العزيز الجاسم وميسون صقر وظبية خميس أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن العشرين- أصبح النص الإماراتي رمزا لمجتمع معقد التركيب وله جدلياته ومعاناته الخاصة؛ حيث كان نصا فصيحا ناشئا، بل ليس ناشئا، بقدر ما هو امتداد لأمة طاعنة في عمرها الشعري، ولما لا، ومؤسس الدولة الاتحادية نفسه الشيخ زايد بن سلطان كان يكتب شعرا نبطيا بل قد يمتد هم الشعر الإماراتي ليتماس مع تراث الخليج وقت كان صوت امرؤ القيس وزهير ابن أبي سلمى والخنساء بنت عمر وهند بنت عتبة يهز كل ركن في شبه الجزيرة العربية؛ ومن هذا المنطلق لن يكون إطلاق مصطلح الجيل الأول على جيل أحمد بن راشد وحبيب الصايغ دقيقا بل الأدق أن يطلق عليه جيل إحياء الكتابة بالفصحى وجعلها الشكل الكتابي الأول في الإمارات المتحدة بشكل يفوق الشعر النبطي ذاته الذي استشرى في الإمارات قبل الوحدة بسنوات طويلة ويغلف فلكلورها.
ربما لا يكون هذا العرض دقيقا فيما يتعلق بتاريخ الأدب الإماراتي لكن المؤكد أنه مهم فيما يتعلق بتجربة الشاعر الشاب علي المازمي الذي فاجأ الأوساط الأدبية العربية في 2021 بديوانه الأول قبر الغراب معلنا عن ملامح موجة أدبية ثالثة في الإمارات برزت كتابتها أواخر العشرية الثانية من الألفية الثالثة بعد الموجة الثانية للكتابة الإماراتية؛ جيل لولوة المنصوري وميرة القاسم وأحمد عبيد الذي ظهرت كتابته وبدأ الجمهور العربي معرفتهم خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة.

وعلي المازمي شاعر ولد -في أول أعماله- كبيرا ما يشير إلى أن هذا العمل خرج للنور بعد فترة مخاض شعري تعارك فيها الشاعر مع مفهوم الشعر وفتش فيها عن ضرورة هذا النشاط؛ فمن خلال 60 نص، مرقمين غير معنونين، يشكلون "قبر الغراب"، عكس الشاعر ملامح لموجة رومانسية جديدة تتجلى في الشعر الإماراتي وتختلف كثيرا في التكنيك عن الرومانسية الأوروبية التي ظهرت مطلع القرن التاسع عشر وكان من أبرز روادها الشاعر الإنجليزي ويليام بليك ووليدتها العربية التي ظهرت مطلع القرن العشرين وكان من أبرز روادها خليل مطران وإبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي؛ يعيد الديوان إحياء الرومانسية في هذا العصر الشبكي النيوليبرالي الذي يدفع الذات الشاعرة لعزلة جديدة واستسلام للطبيعة بمنظور جديد؛ فلو كانت –على سبيل المثال- الرومانسية القديمة تقدس موسيقى الشعر فها هي الرومانسية الجديدة في الإمارات تعامل الموسيقى بلا مبالاة وتنقل قدسيتها للمشهدية الشعرية، تستخدم قصيدة النثر باعتبارها الحقل الأدبي الأوسع للتجريب، مهووسة بروح السرياليين في التصوير الشعري وإلى آخره من التكنيكات الفنية التي تم تضفيرها في "قبر الغراب". 
 لكن أزمة "قبر الغراب" الوحيدة أن قصائده دوال؛ فلم تُستحال بعد إلى كائنات؛ كائنات تشاركنا شرب القهوة في الصباح أو تمارس الحب معنا؛ ظهر في تلك القصائد اختدام للكلام لصالح معنى شبه للشاعر أنه يدرك كماله ويعيش في معاناة للوصول لهذا الكمال ويحققه؛ في تلك القصائد لم تتحول الذات الشاعرة بعد إلى ذلك الكائن الشعري الذي يصول ويجول في حقل المعاني والعلامات ويشدنا معه شدا للطواف والتسبيح من أجل تلك الحياة التي ستتفجر في نفوسنا بعد موت اللغة لكن الذات الشاعرة قد قتلت النمر (إشارة إلى صورة في نص رقم 1) الذي صادفته في طريقها وأبت أن تجرح اللغة حتى واكتفت بأن تستخلص منها المتعة لا النشوة.
ففي النص الأول في الديوان يقول المازمي: (قلبي ضبابيٌ، والمرأة العابرة انطفأتْ في سريري. دَخنتُ النارَ./ ركضتُ في طريقٍ وُلِدَ للتّو بسرعةِ دراجةٍ نارية، ذراعي ممدّدةٌ/ ورأسي يخلقُ الأشياء. أتصارع مع نمرٍ، كان هزيلًا ومات ورديًّا/ أُلاحق أقزامًا وأضربهم بمطرقة، بعد كلّ طرقةٍ يكبرون وأصغرُ أنا/ أستلقي في بركة يتبدل لونها بلون عيون حبيبات خذلنني).
يؤكد النص الأول تلك الحالة الرومانسية التي نتحدث عنها؛ ذات شاعرة يقهرها العالم فتلجأ للطبيعة تشتبك مع ضبابها ونمورها وأساطيرها لكن تلك الطبيعة ليست نقية كما الطبيعة في قصائد الرومانسيين الأوائل إذ لا تخلو من علامات الحداثة كالدراجات النارية؛ وتظل المرأة هي محور الرومانسية والحداثة عند الذات الشاعرة حيث تبدأ القصيدة وتنهوها وكأن للقصيدة مسار دائري تدور المرأة في فلكه فيقول المازمي في بداية قصيدته "والمرأة العابرة انطفأتْ في سريري. دَخنتُ النارَ" ثم يختتمها " أستلقي في بركة يتبدل لونها بلون عيون حبيبات خذلنني".

ومع ذلك لو كان النص لم يدخلنا إلى حالة النشوة التي ننشدها في موت اللغة فقد أدخلنا إلى حالة من المتعة تمثلت في المونتاج السينمائي الدقيق الذي صنع به قصيدته المشهدية المكونة من 3 مشاهد فقط جميعها نهارية ضبابية الأول نهار داخلي يحدث في غرفة نوم تضم عاملة جنس متقدة تشارك لحظة مع شريك جليدي يطفأها ولم يستنشق منها سوى الدخان؛ أما المشهد الثاني فيصور طريقا تلقى فيه الذات نمرا وأقزاما؛ والثالث يصور بركة ملونة بلهيب ذكريات الذات مع النساء.

دقة المونتاج هنا تكمن في عدد من أدوات اللغة التي استخدمها الشاعر بحرفية؛ ففي الشطرة الأولى المفرودة على سطر كامل والتي تمثل المشهد الأول يقول "قلبي ضبابيٌ، والمرأة العابرة انطفأتْ في سريري. دَخنتُ النارَ." حرف العطف هنا لم يأت ليضيف كما هو معتاد في اللغة الوظيفية بل جاء ليقطع "المرأة العابرة" عن الجملة الأولى "قلبي ضبابي" وأن يأتي بمرأة وعابرة معرفتان وليست نكرتان فهو يعطفهم على ما هو غير مكتوب بل معروف ضمنيا؛ إذن وضعت أداة العطف بعد جملة لا تريد العطف وحذفت مع جملة تحتاجه "دخنت النار" وهذا قطع آخر؛ وفي كل مشهد تتوالى لعبة المونتاج تلك الرائعة؛ المتعة ليست في المونتاج بقدر ما هو في إعادة تمثيله في اللغة بهذه الحرفية.

غير أن ما يميز نص "المازمي" هو حرفته في صنع المفارقات اللفظية؛ ففي النصين الأول والثاني يطرح لنا ألفاظا تخلق نفورا داخل النص الواحد، تجعل الجو النفسي في النص يختلج؛ فيقول في النص الثاني من الديوان مثلا؛ "أنتحر في سلة تفاح" جاء التفاح الملون هنا في مشهد موت سودوي وتكررت تلك المفارقة في النص الأول أيضا حينما صور موت النمر بالوردي.
تسيطر على نصوص "المازمي" حالة من تعدد أصوات الرواة داخل النص الواحد؛ يضفرها في إيقاع مدهش يخلق تناغما مع ذلك الإيقاع الذي يصنعه بمونتاج المشاهد وكأن لحنا موسيقيا أضيف إليه بناء هرموني؛ فالنص الثالث مثلا الذي يبدأ بسطر "تحت جلد الأرض تقتل الأشجار الصمت" يبدأ الشاعر في سرد كلماته برويٍ من المنظور الثالث (الراوي العليم) ثم ينتقل إلى روي من المنظور الثاني ثم يعود إلى الثالث ثم إلى الثاني ومنه يختتم بالثالث؛ وهكذا يصنع تلك اللعبة في نصوص متعددة.
من ضمن ألاعيب المازمي في نصوصه أيضا تضفير الأسطورة بشكل هامشي داخل الموضوع الرئيسي في قصيدته لكن ليست تلك الهامشية المجانية بل الهامشية التي تحوي بداخلها قصيدة أخرى قصيدة تفجر صوتا جديدا يتعلق بتاريخ الشعوب؛ في النص الثالث مثلا تتجلى أسطورة العجوز الخبيثة والقلادة؛ وفي النص العاشر أسطورة دفن الغراب، أيضا الخلاص والسير على الماء والأنبياء مقابل الشعراء، والإلقاء في اليم، وهكذا في نصوص أخرى.
في النص الرابع يبدأ المازمي قصيدته النثرية بسطرين موزونين على بحر الكامل (سقطت وجوه الليل/ وانهار اليقين) تشير إلى الخلفية التي دخل بها إلى قصيدة النثر -كما لو كان شاعر تفعيلة متمرس- وتشير أيضا إلى فصل صوت جديد في النص عن صوت آخر؛ صوت أرادت فيه الذات أن تستخلص من اللغة طبيعتها الفيزيائية عن صوت آخر أرادت فيه أن تنتشل النماذج الوظيفية في اللغة كما هي وتدفعها دفعا داخل النص؛ ذلك النص الذي حافظ فيه على البنية الدائرية للقصيدة كما فعل في أغلب نصوص الديوان إذا أنه في النص الرابع ابتدأ بتصوير "الخد" وانتهى بتصوير "الخد" أيضا.
سمة خلط التفعيلة بالنثر لم تقتصر في النص الرابع فقط بل تكررت في أكثر من نص؛ فيقول مثلا في النص رقم 36 تلك الأرجوزة: "لو كنت قد قبلتكِ.. لما كتبتُ قصيدةً".
في النص رقم 4 بدأ يتجلي تيار الوعي داخل الآلية السردية التي توظفها الذات الشاعرة فيقول: "الأشجار تلبس قميص الثلج.. تنتظر التجلي.. سيأتي.. لا يأتي.. لن يتجلى"؛ يتكرر تيار الوعي في نصوص أخرى عديدة؛ يقول في النص رقم 7 مثلا "شامة على نحرها بل قارة من الغرباء".
لا أعترف بالأخطاء النحوية في الشعر؛ فلربما أي ممارسة من هذا النوع تأتي بغرض هدم الجملة النحوية الأساسية لعكس جمالية ما؛ لكن في النص الخامس يقول الشاعر: "كلُّ حبٍّ صادقٌّ.. صلاةٌّ" لست أعرف ما السبب هنا في رفع كلمة "صادق"؛ فبالشكل النموذجي ستأتي مجرورة بنفس ضبط الكلمة السابقة باعتبارها نعت، لكنها جاءت مضمومة لغرض ما مجهل؛ لم اعتبرها جمالية بل شيئا مزعجا عرقل القراءة وشتت السياق بلا سبب واضح حتى لو كان المقصد جماليا لكن هذه من الألعاب التي لم يوفق توظيفها من وجهة نظري.
تتجلى الأزمة الأساسية لنصوص "قبر الغراب" في كشف أغلبها عن قضية رئيسية تنتاب الذات الشاعرة وهي معنى الفقد؛ الفقد تيمة مكررة في كل النصوص هي مشكلة يطرحها الشاعر في القصائد كفيلسوف ويجيب عنها شعرا؛ هذا السؤال وهذه الإجابة يخلق حالة من الكمال الوهمي للمعنى، ما يحيل القصيدة إلى شئ دال يؤدي وظيفة معينة وهي التعبير عن الفقد الذي يعانيه الشاعر؛ أهدى الشاعر الديوان إلى أمه كتب اسمها فيه وهذا شئ طبيعي كأي كاتب يصنع عتبات للدخول إلى الديوان لكن المفاجئ أنه صرح باسمها في النص السادس وحدد الموضوع بدقة أنه يتحدث عن حالة فقد تجاهها فتحول النص إلى قصيدة رثاء حديثة لها غرض ووظيفة وأصبح كل شئ معروف ومحدد ومفصل؛ ولأن الشاعر قليل في شفراته الثقافية والدلالية والتأويلية داخل النصوص فهذا زاد من وضوح المعنى المقصود؛ وقد يكون هذا شئ جيد فيما يتعلق بالنظرة الواقعية للشعر؛ لكنني لا أميل إلى هذه النظرة كجمالية فمن وجهة نظري كلما تجرد الشعر من وظيفته وأنتج أحاسيسَ غير قابلة للتسمية كلما كان النص جيدا.
وهذا لا يعني كتابة نص ملغَّز يشبه لعبة سودوكو أو كلمات متقاطعة، فلا ضرر أن ينفعل الشاعر تجاه معنى واضح وصريح يثير الرغبة في القراءة، لكن الفكرة هنا في إدارة ذلك الانفعال؛ فالانفعال الذي بإمكانه أن يولد فعلا إبداعيا هو نفسه الانفعال الذي يورطك في افتعال إبداعي وليس فعلا إبداعيا؛ التوظيف هنا هو من يتحكم؛ سأرفق مثالا بسيطا على كلامي؛ يقول الشاعر سيد حجاب بالعامية المصرية: "بين ريح وأمواج متلاطمة.. وأسود غطيس وأصفر رنان.. مين اللي ما يحبش فاطمة.. لو فاطمة طاقة نور وحنان" ما لا شك فيه هنا أن الشاعر يستعرض بوضوح مستوى أول للمعنى ويقدمه في الصدارة عن أي مستوى آخر وهو أنه يريد الحديث عن صبية اسمها فاطمة وتصوير كم هي مثيرة للحب! وأن لا أحد يفلت من طاقة الجذب التي تتمتع بها فاطمة؛ هذا هو الواضح من النص، لكن حينما نشتبك مع هوامش النص في كلمتين وصفيتيتن مثل "غطيس" و"رنان" ستبدأ الأسئلة تتفجر في الرأس عن معنيهما؛ فـ"غطيس" و"رنان" هي أوصاف ألوان يستخدمها طائفة تجار الأقمشة في مصر (القمَّاشين) الشاعر هنا لعب على شفرة ثقافية هذه الشفرة البسيطة تخلق في دماغ كل من يشتبك مع العمل قصيدة أخرى (مستوى ثان للمعنى) غير تلك التي تتحدث عن فاطمة؛ قصيدة ينسجها القارئ عن القماشين وألوانهم العجيبة وعن هامشيتهم وهل اندثرت تلك التجارة في المجتمع ولماذا؟ كيف هو شكل الحب عند القماشين؟ ربما يأتيهم على شكل بلتة ألوان غطيسة ورنانة وزنانة وشبحية ودمورية؛ وهكذا تتفجر الجدليات على حسب قدرة كل قارئ على التخييل؛ تحول كل قارئ هنا لشاعر آخر.
ليس معنى ذلك أن المازمي لم يلعب على شفرات ثقافية داخل نصوصه؛ بل لعب بشكل جيد ؛ مثلا التشبيهات التي لعبت على صورة المرأة المغتصبة؛ تكررت تيمة الاغتصاب أكثر من مرة في قصائد تتحدث عن الفقد؛ جاءت صور المرأة المغتصبة كتشبيه في هوامش النصوص؛ وهذه لها انعكاس واضح على معركة نفسية تدور بين الذات الشاعرة ولفظة الاغتصاب قد تحيلنا لتحليل خطاب خارجي قد تأثر به الشاعر وهذا يشكل بيئة ثقافية داخل النص؛ لكن مع ذلك استخدم الشفرة الثقافية هذه على استحياء في أغلب نصوصه؛ كذلك –بالإضافة إلى لفظة الاغتصاب- تأتي ألفاظ مثل "القصيدة"، "الشاعر"، "النبوة".
انتهينا من استعراض صورة عامة لـ"قبر الغراب" إذن، لكن لأسباب جمالية سأختار نص واحد من بين الستين نص لأتعرض له بالتفصيل وهو نص رقم 12 ؛ أكثر نص أحببته في المجموعة بالإضافة إلى نصوص أخرى بينها النص رقم واحد على سبيل المثال؛ فيقول النص رقم 12: (أرمي التّساؤلات الكبرى/ في سلةِ القمامة../ شاعرٌّ؛ خبّأ الخَلاص في قنّينةٍ فارغةٍ/ وضعها في المشكاةِ المشروخة ورحَل./ تعبٌ أصاب الأرض/ الجنون المقدّسُ يحاصرني/ والرسالاتُ أحرقتُها/ ثم قذفتُها/ من على الطائرة/ خارجَ الأبعادِ/ لتمتزِجَ/ في الدّيجورِ الأبديّ./ أتأملُ من النافذة
هذا العالمَ المُهترئ/ بروحٍ كاشفةٍ/ لما وراء الموتِ/ لما وراءَ الصبرِ/ طيورٌ تحملُ أكفانًا ثقيلةً/ في مدينةٍ تحترقُ../ الصحراءُ مدمّرةٌ/ تبكي كشجرةٍ وحيدةٍ على تلٍّ مقصوف./ أمٌ تنوحُ:/ دعوني أعود قليلاً/ لأضمّد جرحَ ولدي، وأموتَ بسلامٍ./ الحُرّاس المخابيلُ/ -كما في الأسطورةِ-/ يتهامسونَ عن ثورةٍ/ تُسقِطُ ذلك الكهلَ./ أشيحُ بوجهي،/ المضيفةُ/ تقدّمُ ليَ الويسكي/ شفتاها لامعتانِ كعينَي سجينٍ/ رجلٌ عليلٌ يشبّثُ بحزامِ الأمان/ يرصُّ جفنهُ/ يرتّلُ دعاءَ السفرِ./ كيف لي أن أنام؟/ سجنتُ آمالَ هذا العالم المحترقِ./ شاعرٌ يحتضرُ/ على قصيدةٍ هشّة/ بمجرّد أن يكتبها؛ تنهارُ/ يبحثُ عن حانةٍ رديئة/ وسطَ حربٍ ضروس/ قذائفُ مُلتهبةٌ/ دموعٌ هاجِرة/ دفقٌ أحمرُ/ يتساقطُ على الأرض،/ الوطن وَفيٌ جدًا/ يرفضُ أن يبتلعَ أبناءَه/ يتقيّؤُهم دمًا./ يا لهذا الكمِّ الهائلِ من الضحك/ خلاصهم/ حبيسُ قنّينتي/ هناك،/ في المكان الذي/ كان منزلي/ تركته بلا طعامٍ/ أمام سلافةِ كأسي/ وصورةِ أمّي/ وعينٍ اقتلَعتْها امرأةٌ/ قبيلَ الانتحارِ/ كي لا تراهُ مجدّدًا.).
نستطيع هنا أن نأخذ هذا النص للتعبير عن العمل ككل بما أنه أكثر النصوص الحاوية لكافة الألاعيب الشعرية التي صنعها المازمي في ديوانه؛ النص عبارة عن مونولوج عام ضفره بعدد من المونولوجات الداخلية يحوي سرده أصوات تنتوع بين منظوري الراوي الأول والراوي الثاث ينتقل بينهما بشكل إيقاعي؛ يتجلى تيار الوعي في الوتيرة التي يستخدمها لتقسيم سطور قصيدته حينما يقول مثلا: (قذائفُ مُلتهبةٌ/ دموعٌ هاجِرة/ دفقٌ أحمرُ) جمل مبتورة بهذا الشكل، مبتدئات منعوتة دون خبر، شبه موزونة على المتدارك هدفها الرئيسي تسيّل الوعي؛ وهذه مهارة كررها الشاعر في عدد من القصائد لكنه استخدمها على استحياء.
يتجلى هنا الإيقاع البصري اذي أشرنا له من قبل في مشهد النظر من نافذة الطائرة الذي يقطعه حضور المضيفة؛ النص مفعم بالرموز الثقافية أيضا حيث يهرب من تصوير الطبيعة في النص للتصوير الحداثي الذذي يتجلى في رموز كالطائرة والمضيفة والويسكي ثم يشتبك مع الأسطورة كعادته فيجعلها أزمة وجودية قابلة للعراك معها وتجلت هنا في فكرة الخلاص الذي خبأه في قنينة وطاردته الخلاص طيلة النص؛ أيضا تتفجر الرموز من خلال لفظة دعاء السفر التي تحي ثقافة إسلامية خالصة؛ ثم تتجلى واقعيته في السطر الذي يقول فيه (الحُرّاس المخابيلُ/ -كما في الأسطورةِ-/ يتهامسونَ عن ثورةٍ/ تُسقِطُ ذلك الكهلَ) ربما خلقت هنا الجملة الاعتراضية (كما في الأسطورة) نوعا من الـ"سيركزم" داخل النص إذ أن فهو مشهد واقعي خالص أراد الشاعر أن يؤكد على أسطورته وهو الذي لعب بالأسطورة على كل ما هو واقعي في أغلب نصوص الديوان؛ فيالها من مفارقة مناورة وساحرة.
وفي (وعينٍ اقتلَعتْها امرأةٌ/ قبيلَ الانتحارِ/ كي لا تراهُ مجدّدًا.) تفجر الهاء في "تراه" الشغف الهرمينوطيقي داخل النص فتدعنا نتساءل على من تعود الهاء إذ تتعدد التأويلات هنا ربما يلتفت الراوي إلى نفسه بصوت من منظور ثاني أو تعود الهاء شئ ما نمطي معروف وهو أي حبيب تنتحر امرأة من أجله.
النص الإماراتي الرومانتيكي الجديد الذي يكتبه علي المازمي؛ نص نثري، سريالي، كاشف، قليل الاشتباك مع الواقع الحديث، كثير الاشتباك مع طبيعة البيئة الخليجية، مهووس بالرمزية الأسطورية المستوحاه من التراث الشرقي؛ مشهدي الإيقاع؛ متعدد الأصوات؛ مونودرامي الأداء، مناجي، متداخل المونولوجات.