لم تبالي السيدة الأربعينية بأشعة الشمس الحارقة التي تملأ المكان، ولا ببرودة الجو القارص، فتفترش الأرض يوميا لأداء عملها من أجل قوت يومها، يداها لم تظهر عليها نعومة الأنوثة التي تتصف بها السيدات، فتقشيرها لجريد النخيل ترك فيها آثرًا من الجروح الصغيرة، وعيناها الجميلتان تفرط الدموع ما بين الحين والآخر على تلك الحالة المزرية التي يعيشها نجلها المريض.
في منطقة ميت شماس بمحافظ الجيزة، تعيش السيدة نجاح رشاد محمد صاحبة الـ42 عامًا، تعول أسرتها برفقة زوجها الذي يعمل "قفاص"، حيث يبدأ يومها من الثامنة صباحًا في تقشير ورق الجريد منذ أكثر من عشرين عامًا على هذه الحالة، ولا تكل السيدة ولا تمل من مساندة زوجها طوال هذه السنوات.
من الصباح الباكر حتى غروب الشمس، تعمل مقابل 50 جنيهاً تقتضيها من صاحب العمل، ورغم بخس المبلغ يكون العمل حسب المجهود الذي تبذله السيدة الأربعينية: "الـ26 جريدة بـ5 جنيهات، وحسب الانتاج باخد فلوس يعني ممكن في يوم أعمل بـ50 جنيه ويوم تاني 30.. وبعمل كل جريدة ربطة من الورق علشان نعده آخر اليوم وبيتباع للكرينة".
خمس أولاد أنجبتهم "نجاح" تستيقظ يوميا في السابعة صباحًا تجهز لهم الإفطار ثم تنطلق إلى عملها، وترك نجلتها الكبيرة لترعى مصالح بيتها لحين عودتها، الظروف التي تعاني منها السيدة الأربعينية أجبرتها على عدم استكمال أولادها للتعليم، حيث تبقى اثنين منهم في المدرسة حتى الآن".
ما يشعل لهيب الألم في قلب الأم الأربعينية هو ولدها الذي يعاني من ورم في المخ، حيث بلغ الـ27 عامًا ولم يحصل على معاش من الدولة يوفر به دواءه: "قدمت له منذ 3 سنوات ، وحتى الآن مجاش حاجة وكشفت عليه وهو لائق"، دموعها جعلتها تعجز عن وصف حالتها وكم المعاناة الذي تعيشه مع نجلها، لتكمل: "زوجي شغال قفاص ولما اتجوزته اشتغلت في تقشير الجريد علشان اساعده على الحلوة والمرة".
وتكمل الأم: "بيصعب عليا بسرعة بس أنا راضية بقضاء ربنا، مش طالبة من ربنا غير انه يجي له المعاش علشان مش عايزاه يحتاج لحد.. وكل ما أروح للشئون أسال يقولوا لسه.. ومستنية على أمل من ربنا سبحانه وتعالى".
يد السيدة نجاح تعمل ولا تتوقف، ولكن عقلها يشرد أحيانًا ليتذكر الماضي، ويعود مسرعًا ليعيش في الحاضر الأليم: "لما بكون شغاله بسرح بخيالي أكيد بس أكتر حاجة بفكر فيها أولادي نفسي يعيشوا زي الشباب ويتمتعوا بحياهم.. وبشوف التليفزيون بالليل بس اسمع ساعة وأنام وأحمد ربنا على كده".