السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

المعاني الروحية الخالدة في معمودية المسيح

القس سهيل سعود
القس سهيل سعود
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

القس سهيل سعود 

إذْا ما قرأنا قصة معمودية المسيح في الأناجيل الأربعة، سوف نلاحظ أنَّ كل إنجيل يسرد قصة المعمودية بطريقة مُختلفة، فيذكر جوانب مُعيّنة، ويُهمل أخرى. فالبشير متّى هَدَف في تسجيله لحدث المعمودية بأنْ يُظْهِر الرب يسوع المسيح كخادم يُطيع الله في كلّ الأمور. فبالرغم من اعتراض يوحنا المعمدان على قدوم المسيح إليه ليعتمد منه، إلاَّ أنَّ المسيح الخادم المُطيع أجاب المعمدان بقوله، "لأنَّه هكذا يليق بنا أن نُكَمِّل كلَّ بِرٍّ"، وهكذا اعتمد. والبشير مرقس، هدف في تسجيله لحدث المعمودية، إلى الإشارة إلى هوية يسوع المسيح كونه ابن الله، وهو لا يجد أي حرج في اعتماد يسوع على يد يوحنا المعمدان دون أنْ يقدِّم أي تفسير لذلك. والبشير يوحنا، بالرغم مِن أنَّه لا يُسجل حدث المعمودية عند حدوثه، إلاَّ أنَّه يشير إليه عندما تحدث عن شهادة المعمدان، الذي رأى في يسوع المُعمَّد "حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم". وبالتالي رأى الصليب في المعمودية. أما البشير لوقا (لوقا 21:3 – 22) فإنَّه رأى في معمودية يسوع معانٍ عميقة ومُميَّزة، وسوف نتوقَّف عند أربعة منها:

أولاً: يذكر أنَّ الرَّب يسوع المسيح ذهب ليعتمد مِن يوحنا المعمدان في نهاية خدمته كتتويج لها، قَبْل أنْ يُسْجن وتُقْطَع رأسه. بالرغم مِن أنَّه لا يصف هذا الحدث كباقي الأناجيل عندما حدث، لكنَّه يذكر أنَّ خدمة المسيح ابتدأت عندما انتهت خدمة المعمدان. فهناك تَسَلْسُل بَيْن الخدمتَيْن. فالمعمدان يخدم أولاً ويشهد عن المسيح الآتي قائلاً: "يأتي مَنْ هو أقوى مِني، الذي لَسْتُ أهْلاً أنْ أحُلَّ سيور حذائه، هو سيعمدكم بالرُّوح القدس ونار" (لوقا 3: 16)، ثم يأتي المسيح ويعتمد منه، ويبدأ خدمته.

ثانياً: إنَّ الأمر المُلاحظ في سِجِل البشير لوقا للمعمودية، هو أنَّ الروح القدس لَمْ يَنْزل على المسيح أثناء معموديته (كباقي الأناجيل) وإنَّما بعد انتهاء الحدث، وبشكل محدَّد عندما كان يسوع يصلّي. فيقول: "ولما اعتمد جميع الشعب، اعتمد يسوع أيضا. وإذْ كان يصلّي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس" (لوقا 21:3). وبالتالي يريد لوقا أنْ يشير إلى أهمية الصلاة في حياة المسيح وحياتنا، لاسيما، بعد المعمودية. فكما نزل الروح القدس على المسيح عندما كان يُصلّي، هكذا ينزل علينا الروح القدس عندما نكون في حالة صلاة وعبادة. هذا التَّوَجُّه لإظهار أهمية الصلاة، خاصة أثناء الأحداث الأساسية في الحياة، يظهر جَلياً في إنْجيل لوقا. وهذه بعض الأمثلة:

عندما بشّر الملاك "جبرائيل" "زكريا" الكاهن بخَبَر ولادة ابنه "يوحنا" مِن أحشاء زوجته "أليصابات" المُتقدِّمة في السِّن كان في حالة صلاة وعبادة "كان يخدم في هيكل الرب ويكهن ويبخّر، وكان كل جمهور الشعب يصلّون خارجاً وقت البخور" (لوقا 8:1 و 9). أيضاً قَبْل التَّجلِّي كان يسوع يُصلي على الجبل (لوقا9: 29). كما يذكر أعمال الرسل الذي كتبه البشير لوقا إنَّه قبل حلول الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين (العَنْصَرة) "كانوا يواظبون بنَفْس واحدة على الصلاة والطلبة" (أعمال الرسل 14:1). كل هذه الشواهد تؤكِّد على أهمية الصلاة في حياة كل إنسان مؤمن اعتمد باسم المسيح.

ثالثاً: يقول البشير لوقا "وإذْ كان يسوع يصلي انفتحت السماء" (لوقا 3: 21). وانْفتاح السماء ظاهرة غير اعتيادية فوق طبيعية، تُذكِّرنا بأحداث هامة ذات مَعنى. فيذكر أنَّه في أيام إيليا النبي "أُغلقت السموات مدة ثلاث سنين وستة أشهر، لما كان جوع عظيم في الأرض كلها" (لوقا 25:4)، لكن انفتاح السموات يَمْنَح بركات إلهية. لقد اعتُبِرَت الديانة اليهودية المُعاصرة للمسيح أنَّ مثل هذه العناصر فوق الطبيعية تُشير إلى أنَّ الله سيُعلن عن مَنْحِه هبات للعالم. فانْفتاح السموات سيَتْبَعه كَشْف إلهي لهبات إلهية، ظَهَرت أولاً: مِن خلال نزول الروح القدس على المسيح. وثانياً، مِن خلال صوت الله الذي تكلَّم قائلاً: "أنتَ ابني الحبيب بِكَ سُرِرْتُ" (لوقا 22:3). هذا الكَشْف الإلهي الجديد أعْلَن لنا عن هوية هذا المُعَمَّد، وروح الله وصَوْت الله أكَّدا أنَّ يسوع المسيح، هو هِبَة الله الجديدة للعالَم.

رابعاً: إنَّ البشير لوقا هو الوحيد بَيْن باقي البشيرين الذي يشدِّد على هيئة وشَكْل نزول الروح القدس. فهو لا يكتفي كالبشيرين متى ومرقس، بأنْ يذكُر أنَّ الروح القدس نزل على المسيح مثل حمامة، لكنَّه يشدِّد على أنَّ نزوله كان "بهيئة جسمية" (لوقا 22:3). وكأنَّه يريدنا أنْ نتذكَّر أهمية الهيئة الجسمية للحمامة، بَلْ أهمية رمز الحمامة في الكتاب المقدس. فبِماذا تُذكِّرنا حمامة الروح القدس التي نَزَلت على المسيح؟ إنّها برفرفة جناحيها تذكرنا بأمرَيْن: الأول، بَدْء الخليقة، فالأعداد الأولى مِن سفر التكوين تقول: "في البَدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية على وجه الغمر، وروح الله يرف على وجه المياه". فروح الله كان يرف كالحمامة على وجه المياه عند بَدء الخليقة ليخلق العالم ويعتني به كما يَرفُّ الطَّيْر فَوْق فراخِه ليعتني بها ويحافظ عليهم. وقد ذَكَرَت بعض التفسيرات اليهودية أنَّ هذا الطَّيْر هو الحمامة. فكما أنَّ روح الله رفّ على وجْه المياه كالحمامة ليبدأ عملية خَلْق الكون، هكذا فإنَّ رَفَّة حمامة الروح القدس، تُشير إلى عملية خلق جديد وخليقة جديدة. الأمر الثاني الذي يُذكِّرنا به رفرفة الحمامة هو قصة طوفان نوح المَذكورة في سِفْر (التكوين 8:8 – 11). حيث يقول إنَّه بعد أربعين يوماً مِن الفيضان أرسل نوح حمامة للمرَّة الثانية مِن الفُلْك، ليرى إنْ قَلَّت وجَفّت المياه عن وَجْه الأرض، فتَرَكت الفُلْك، ثم أتَت عند المساء، حامِلَة في فَمِها ورقة زيتون خضراء، عندها علم نوح أنَّ الماء قد قلَّت عن وجه الأرض. وبالتالي، كما أنَّ حمامة نوح أعلنت عن بدء حقبة جديدة هي حقبة حياة ونعمة ورجاء، بعد انتهاء حقبة الموت والدينونة التي سبَّبها الفيضان، هكذا فإنَّ تشديد لوقا على تصوير الحمامة التي نَزَلَت على المسيح بهيئتها الجسمية، هو للإعلان للعالَم بأنَّ المسيح يسوع بعد افتتح بروحه القدوس الذي حَلَّ عليه بعد المعمودية حِقْبة جديدة مِن الخلاص والنِّعمة والحياة والرَّجاء، لكلّ من يؤمن به ويتَّخذه ربّاً ومُخلّصاً لحياته. يقول المسيح: "الحقَّ الحقَّ أقول لكُم إنَّ مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بَلْ قد انتقل من الموت إلى الحياة" (يوحنا 24:5). وقد أكد الرسول بولس على هذه الحقيقة حين قال: "إنَّ كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مَضَت هوذا الكلُّ قد صار جديداً"(2 كورنثوس 17:5).

إنَّ كل خطوة قام بها المسيح، ومنها معموديته، كان لها معنى وصَدى في حياتنا، فلا نَنسى أنَّه من خلال المعمودية أظهر لنا البشير لوقا:

أنَّ يسوع المسيح هو المُنْتَظَر الذي بدأ خدمته بَعْد انتهاء خدمة المعمدان.

أنَّ انفتاح السماء وسَماع صوت الله هو كَشْف إلهي جديد بأنَّ ابنه الحبيب هو هِبَة الله للعالم.

أنَّ الصلاة، لاسيما بعد المعمودية، كانت جُزْءاً من حياة المسيح، لتكون جزءاً من حياة المعمَّدين باسمه.

أنَّ الروح القدس الذي نزل على المسيح على شَكْل حمامة أشار إلى أنَّ المسيح بدأ حقبة جديدة من الخلاص والحياة والنِّعمة لكلِّ مَن يتَّخذه رباً ومُخلِّصاً.