منذ أكثر من أربعين عاماً أتابع قضايا المواطنين المصريين الأقباط، تارة كصحفى وأخرى كباحث، ولاحظت أنه لا أحد ينظر إلى تلك القضية من منظور أزمة الدولة المدنية الحديثة، ولم يلحظ أحد أن أول تجليات الأزمة كان عام 1910 المؤتمر القبطى ومن 1910 حتى أحداث العمرانية 2020 مضى قرن وعشر سنوات من الزمان، وتبوأ الحكم فى مصر أربعة ملوك "عباس حلمى، حسين كامل، فؤاد، فاروق) وستة رؤساء «عبدالناصر، السادات، مبارك وعدلي منصور ومرسي والسيسي».
شهدت تلك الفترة «72» حكومة، «42» فى العصر الليبرالى منذ حكومة بطرس غالى باشا 1910 وحتى حكومة على ماهر باشا 1952 بتكليف من الملك فاروق، و«7» حكومات فى عهد ناصر، و«7» فى عهد السادات، و«9» حكومات فى عهد مبارك، ومن 2010 وحتى الآن تسعة عشر حكومة، كل ذلك ومشكلة عدم اكتمال مواطنة الأقباط قائمة بشكل أو بآخر.
فى العصر المسمى الليبرالى، وفى فبراير 1934، فى حكومة عبدالفتاح يحيى باشا أصدر العزبى باشا وكيل وزارة الداخلية الشروط العشرة لبناء الكنائس التى سببت 76% من الأحداث الطائفية. ارتبط ذلك بإسقاط دستور 1923 وإعلان دستور صدقى 1930 وظهور جماعة الإخوان المسلمين وتحالفها مع صدقى.. بل وفى ظل زخم زعامة النحاس للأمة تم تجريس حزب الوفد فى الأربعينيات من القرن الماضى على أنه حزب نصرانى.. أسس لهذه الحملة أيضاً الإخوان المسلمون، والأخطر أنه فى ظل حكومة الوفد 1950 لأول مرة بعد ثورة 1919 تم حرق كنيستين إحداهما فى السويس والأخرى بالزقازيق وسقط قتيلان من الأقباط.
ومن العصر الليبرالى إلى العصر الناصرى، لم تشهد المرحلة أى اعتداءات على أقباط أو على الكنائس، ولكن تم إضافة خانة الديانة للبطاقة الشخصية، الأمر الذى انسحب إلى العديد من الوثائق الأخرى، كما تم حرمان الأقباط من الوظائف العليا فى بعض أجهزة الدولة.. ناهيك عن تحويل جامعة الأزهر من جامعة دينية إلى جامعة مدنية يقتصر القبول فيها على المواطنين المسلمين رغم أنها تمول من أموال المصريين مسلمين وأقباطاً.
ثم جاء مشروع السادات بالتحالف مع الإخوان لضرب الناصريين والماركسيين.. وانتقلت ظاهرة الإخوان المسلمين والتديين من خارج النظام السياسى إلى داخله، وتسللت إلى قمته.. وعبر الانفتاح الاقتصادى ضرب السادات الأساس الاجتماعى للمشروع الناصرى، وبدأت البطالة تطل برأسها، وبدأ تهميش الصعيد، مما مهد الطريق اجتماعياً للإرهاب، فى عصر مبارك، خاصة العشر سنوات الأخيرة. وعكس ما يتصور الجميع كانت هذه المرحلة هى العصر الذهبى للإخوان، حيث تم تمكينهم اقتصادياً «السيطرة على 55% من تجارة العملة، و23% من التجارة الداخلية و14% من التصدير والاستيراد، وبلغت عمليات المضاربة وغسيل الأموال أقصى مدى، راجع حتي الآن شركات كانت تمولهم وفق شهادة محمود عزت». وعلى الصعيد السياسى وافق الإخوان على التوريث مقابل التمكين فى مجلس الشعب، إضافة إلى التمكين الدولى وتأسيس التحالف الإخوانى الأمريكى.
وكنت طوال الفترة من الثمانينات وحتي مشارف الالفية الثانية مع الزميل عبدالرحيم على في صحيفة الأهالي نجوب مصر شمالا وجنوبا لفضح ممارسات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد ضد المواطنين المصريين الأقباط ، ونجحنا في فتح هذا الملف «المسكوت عنة»، وفضحنا مذابح عزبة «النصارى» بصنبو ومذبحة دير المحرق ، ومذابح أخري مما لفت نظر الرأي العام لأكثر من 320 شهيدا قتلوا علي الهوية ، حدث ذلك حينما لم تكن هناك أي مرجعية حقوقية تتبني ذلك سوي التجمع والأهالي، وكان ذلك يكلف الصحفي إما حياته أو مضايقات الدولة وأحيانا حريته.
الأقباط والحياة النيابية:
وإذا رجعنا للخلف لمراجعة ذلك سنجدها في العهد الملكي: كانت نسبة تمثيل الأقباط في برلمانات ما قبل عام 1952 أكثر من 5% من إجمالي عدد النواب.. ووصلت إلى قمتها في عام 1942 التي حصل فيها الأقباط على أكثر من 10% من إجمالي عدد المقاعد.. وفي الحقبة الناصرية انخفضت المشاركة السياسية للمصريين بصورة عامة والأقباط بصورة خاصة نتيجة التغيير الجوهري الذي حدث، ومن هنا لجأ عبدالناصر إلى إدخال نص جديد في الدستور لتعيين عشرة أعضاء لمجلس الأمة آنذاك لمواجهة عزوف الأقباط عن الحياة السياسية. وقد تراوحت نسبة تمثيلهم في البرلمان آنذاك بين صفر% إلى أقل من 3%. فلم يكن لهم أي عضو في برلمان عام 1957. ووصل عددهم إلى تسعة نواب منهم سبعة معينين، واثنان منتخبان في برلمان عام 1969.. لكن العصر الناصري شهد مناخ من التسامح والسلام الاجتماعي.
وفي عهد السادات وصلت نسبة تمثيل الأقباط في البرلمانات إلى قرابة 3%. ففي عام 1971 وصل عددهم إلى اثني عشر عضوا، وفي عام 1976 لم ينتخب أي قبطي، وفي عام 1979، نجح أربعة في الانتخابات، وتم تعيين عشرة. وساهم في تدني التمثيل البرلماني لهم ماقام به السادات من "أسلمة" المجتمع، وتشجيع الإخوان المسلمين، وإطلاق الحريات لهم، واستخدام الدين في خطاباته، والعلاقة غير السوية مع البابا شنودة حتي وصل به الأمر إلى فرض إقامة جبرية عليه.
أما في عهد مبارك فقد كانت نسبة تمثيلهم أقل من 2%، أى أن الوضع كان سيئا. فقد بلغ عدد الأقباط في برلمان 2000 ستة أقباط من أصل 454 عضوا بمجلس الشعب. وفي عام 2005 دخل المجلس سبعة أقباط من بينهم واحد بالانتخاب، وهو يوسف بطرس غالي، وزير المالية، في ذلك الوقت لوجوده في الحزب الحاكم والحكومة.
لكن بعد ثورتي 2011 و30 يونيو تطور الأمر إلى الكوتة القبطية: خصص القانون مجلس النواب نص القانون رقم 46 لسنة 2014، نسبة 25% من مقاعد المجلس للمرأة على أن يكون هناك تمثيل مناسب للفلاحين والعمال والشباب والأقباط وذوي الاحتياجات الخاصة والمصريين في الخارج.
بعد قرابة 80 عاماً على انتخابات برلمان عام 1942 فى مصر، الذى كان علامة فارقة في المسيرة البرلمانية لأقباط مصر، حين فاز منهم 27 نائباً فى ذلك العام، جاء العام 2015، ليعيد إلى الذاكرة من جديد، ذلك المشهد البرلمانى، الذى جرى عام 1942، ليضم مجلس النواب المصرى الجديد فى أولى دوراته التى تنعقد جلستها الأولى اليوم الأحد، 39 نائباً قبطياً تحت قبته، بينهم 36 نائباً ونائبة قبطية، دخلوا تحت قبة البرلمان عبر صناديق الاقتراع، وتعد هذه النتائج هي الأفضل بالنسبة للمرشحين الأقباط على مقاعد الفردي وبدون كوتة من بعد ثورة يوليو 1952، وهو ما يكشف عن تغير نوعي مهم في توجهات ودوافع تصويت الناخب المصري. وقد كان إقبال المسيحيين على الترشح للمنافسة على المقاعد الفردية ملمحاً إيجابياً فى انتخابات مجلس النواب المصرى، حيث تقدم للترشح 206 على المقاعد الفردية فى الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات.
وعلى صعيد المشاركة في الوزارات لم يمثل الأقباط سوي بوزيرين في المتوسط في كل تلك الوزارات علي مختلف العهود . هكذا يبدو الأمر أن المواطنة هي الحل، وأن كل الجهود القائمة حتى الآن مع احترامنا لها إلا أن سبل التعيين من العهد الناصري، أو القوائم أو الكوتة مجرد محاولات لن تؤدي إلى تحقيق المواطنة بل هناك ضرورة لعودة الديمقراطية والحياة الحزبية الحقيقية بعيدا عن تحول الأحزاب إلى جماعات مصالح كما يحدث الآن.
المنظمات القبطية:
بعد ثورة 25 يناير ظهر جيل جديد من النشطاء الأقباط ، تحرر بعد مذبحة ماسبيرو، ودفعوا دماء كثيرة، وشاركوا بفاعلية في إسقاط حكم الإخوان، إلا أن التنظيمات الحقوقية تراجعت في السنوات العشر الأخيرة شأنه شأن معظم المنظمات القبطية لأنهم كانوا يحتاجون للخبرة التاريخية للاقباط، وضرورة أن يتعرفوا على كيفية إدراك أن حل مشكلات الأقباط لن تتم إلا من خلال المواطنة وان القضية لا يمكن ان تحل بشكل منفرد ثوري طائفي ، وليس بالضجيج في وسائل التواصل الاجتماعي ، وعلى مر السنين من 1978 وحتى 2022 ، رأيت تضحيات هائلة للأقباط دون مقابل يساوي تلك التضحيات لأن النخب إما «سلطوية» تجلس في الصفوف الأولي بالكاتدرائية بالأعياد حتى يتم شكرهم ليكونوا ممثلين للسلطة في الكنيسة لتحقيق مصالحهم، أو شباب على عكس هؤلاء ولكنه يعارض بمنطق «أقلياتي ـ طائفي»، أو معارضة من المهجر تفتقد لكل الخبرات التاريخية للراحلين «نجيب سليم أو شوقي كراس» ومجالس ملية انتهي العمر الافتراضي للفكرة، ومنذ 1952 لم يوجد رجال دولة من أمثال ويصا واصف وسينوت حنا، أو فخري عبد النور، تكنوقراط في خدمة الدولة علي حساب الكنيسة والمواطنة.
مستقبل النضال إلى المواطنة:
لاشك أن الفترة من بعد ثورة 30 يونيو حتي الآن شهدت ظاهرتين متناقضتين:
الأولي تقلص الصوت القبطي واقتصارة على قضايا ليست أساسية وعبر السوشيال ميديا مثل قضايا اختفاء الفتيات، وبشكل منفرد دون وجود أصوات من المنظمات السابقة، في حين تركت كل القضايا دون مطالب، وتم إعلاء العار الطائفي على العار الاجتماعي دون إرساء المطالبة بالمواطنة الكاملة.
أما الثانية فكانت في التطور المعنوي الكبير من الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي كان الرئيس الأول الذي يوالي زيارته الكاتدرائة واعتبار الكنيسة بيت من بيوت الله بما يحمل ذلك من ردود حقيقية علي الجماعات المتطرفة، وإصدار قانون بناء الكنائس ورغم عدم حلة بشكل كامل لبناء الكنائس إلى أنه يعد مؤشر لإرساء وضع قانوني لمشروعية بناء الكنائس.
والآن ومع احترامي للجميع حان الوقت لكي تدرك الكنيسة أهمية الاهتمام بالتعليم والتكوين لأجيال جديدة على غرار من خرجوا بنارالفرن في عزبة الفرن وكدوان واللوفي والعور، في المنيا ،ومن تعمدوا بالدم في ماسبيرو وشقوا طريقهم دون ضجيج أو متاجرة ، نحن بحاجة لتعليم يجمع ما بين الزمني والروحي على أرضية المواطنة وإدراك الخبرة التاريخية للأقباط على غرار ما انتح الشهداء والمعترفون الجدد.
وأيضا أن يتخلي ما تبقي من الناشطين الأقباط عن النضال من أجل المواطنة بالشكل القديم الذي أضاف تضحيات أخري ليس فقط من عدم إضافة للمواطنة بقدر ما أدت الي دفع بعض الشباب لسنوات في السجن.. وليس أمام هؤلاء في المرحلة الجديدة سوي التخلي عن الطائفية واستخدام الوسائل الوطنية من جماعات الضغط سواء المنظمات الأهلية والأحزاب ، خاصة وأن الكنيسة أدركت مبكرا آليات الانتقال إلى تلك المرحلة مبكرًا.
من له عينان للنظر فليقرأ.