"لا يمكننا أن نقارن بين الأنثى والذكر في النوع البشري إلا من الزاوية الإنسانية ولا يعرف الإنسان إلا بأنه كائن غير معطى وأنه يصنع نفسه بنفسه ويقرر ما هو عليه"، نسبت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار المقولات المميزة للثقافة الذكورية إلى مصادرها الصحيحة، التي يتزامن اليوم ذكرى ميلادها التاسع من يناير لعام 1908.
وتعد الكاتبة والمفكره والفيلسوف الفرنسية دي بوفوار علامة بارزة في طريق الحركة النسوية التحريرة، التي ارتبط إسمها بقضية الدفاع عن حقوق المرأة منذ وقت مبكر في حياتها ونادت بحق المرأة في اتخاذ القرار ورفض الأوضاع التي تكبلها وساندت حركات تحرر المرأة في شتى أنحاء العالم، وعلى الرغم انها لا تعتبر نفسها فيلسوفة إلا إنها ذو تأثرة في ثقافة المواطنات الفرنسيات بل نساء العالم أجمع.
ولدت دي بوفوار في باريس وهي الابنة الكبرى لجورج برتراند دي بوفوار، وهو محامٍ كان يطمح أن يكون ممثلاً، وكانت دي بوفوار من عائلة تصارعت للبقاء على نفس المستوى المعيشي البرجوازي حتى بعد أن فقدت كثير من ثروتها بعد الحرب العالمية الأولى، كانت دي بوفوار ملتزمة دينياً منذ طفولتها وقد كانت تنوي أن تكون راهبة حتى خاضت أزمة الإيمان في عمر الرابعة عشر مما حدا بها لتكون ملحدة بقية حياتها.
كانت دي بوفوار مفكرة منذ عمر مبكر بفضل تشجيع والدها الذي كان يتباهى قائلاً " سيمون تفكر كرجل "، اجتازت دي بوفوار امتحان البكالوريا في الرياضيات والفلسفة، ثم درست الرياضيات في معهد سينت ماري، والفلسفة في جامعة السوربون وقت كتبت اطروحتها عن لايبنتز.
عملت دي بوفوار بداية مع موريس ميرلو بونتي وكلود ليفي ستروس حين كان الثلاثة ينهون متطلبات مهنة التدريس في نفس المدرسة الثانوية، رغم أنها بوفوار لم تنضم لمدرسة الأساتذة العليا إلا أنها حضرت هناك بعض الفصول للتحضير لإختبار الفلسفة وتعد هذه المؤسسة واحدة من أعرق المؤسسات الفرنسية التعليمية، هدفها هو رفد الجمهورية الفرنسية بنمط جديد من المتعلمين قادرين على الاستقراء بصورة مغايرة للنمط المألوف، دي بوفوار خلال دراستها للفلسفة هناك قابلت طلاب تلك المدرسة ومن بينهم جان بول سارتر، وبول نيزان ماهو والذي أطلق عليها لقب "القندس"، ومنحت هيئة التحكيم سارتر المرتبة الأولى بدلاً من بوفوار التي حازت على المرتبة الثانية،وقد كانت في عمر الواحد والعشرين وبذلك هي أصغر شخص يجتاز الامتحان في التعليم الفرنسي حينذاك.
كانت دي بوفوار على علاقة بجان بول سارتر الذي كان يعرف بذكائه، طلب سارتر أن يوقعا عقد بينهما لمدة سنتين ورفضت دي بوفوار واختارت أن لا تتزوج ابداً طبقا لمقولتها الشهيرة في نهاية حياتعا "الزواج كان مستحيلاً فأنا لا أملك مهراً"، وهذا الأمر منحها الفرصة لتتفوق اكاديمياً وتنضم للحقل السياسي.
نشرت بوفوار روايتها الأولى " المدعوة" في عام 1943، وهي عبارة عن وقائع خيالية لعلاقتها الجسدية هي وسارتر مع أولقا كوزاكيوكز وواندا كوزاكيوكز، أولقا هي واحدة من طالباتها في مدرسة روين الثانوية والتي قامت سيمون بالتدريس فيها خلال الثلاثينات، وخلقت دي بوفوار في هذه الرواية شخصية واحدة من علاقة أولقا وواندا، والنسخة الخيالية من شخصية بوفوار وسارتر في الرواية تشير لعلاقتهم الثلاثية مع المرأة الشابة كما تنقب الرواية على علاقة سارتر و دي بوفوار المعقدة وكيف تأثرت بتلك العلاقة الثلاثية،وبعد هذه الرواية الميتافيزيقية تبعتها العديد من الروايات بما فيها دماء الآخرين التي اكتشفت من خلالها طبيعة المسؤولية الفردية.
وكتبت دي بوفوار مقالها الفيلسوفي الأول في عام 1944 بعنوان "بيروس وسيناس" ثم تابعت اكتشاف الوجودية من خلال مقالها الثاني " أخلاقيات الغموض" في عام 1947 والذي قد يكون الدخول الأهم للوجودية الفرنسية،كما يتميز الكتاب ببساطته التي جعلته قابل للفهم ويناقض بذلك السمة المبهمة لكتاب سارتر الوجود والعدم.
كما أوضحت دي بوفوار في هذا المقال بعض التناقضات والتي وجدها العديد بمن فيهم سارتر في الأعمال الوجودية مثل الوجود والعدم وواجهت أيضاً في أخلاقيات الغموض المعضلة الوجودية للحرية المطلقة مقابل الظروف المقيدة.
تشاركت بوفوار وسارتر في تحرير صحيفة "لي تان مودرنس"، وهي صحيفة سياسية أصدرها سارتر مع موريس ميرلو بونتي وآخرين، وكانت دي بوفوار تستخدم الصحيفة لترقى بأعمالها وتكتشف أفكارها الفلسفية أولا ً بأول قبل تحويلها إلى مقالات وكتب لاحقا وظلت بوفوار محررة في الصحيفة حتى وفاتها.
وأسهمت كتابات دي بوفوار في تشكيل وعي الناشطات العربيات الحقوقيات، حيث تمثل عقدة السيطرة الذكورية على تفكيرهن، وتحاول الكتابات الحقوقية الوصول لحل مشكلة وضع المرأة في الكثير من دول العالم، ويعتبر كتابها "الجنس الآخر" الذي نشر سنة 1949 الأشهر في مسيرتها، والعمل الرئيسي للفلسفة النسوية، ونقطة انطلاق لموجة ثانية من النسوية، كتبت "الجنس الآخر" في نحو 14 شهرا عندما كان عمرها 38 سنة، ونشرته في مجلدين وظهرت بعض الفصول الأولى في صحيفة لي تون موديرن، وقد وضع هذا الكتاب مسبقاً في الفاتيكان على قائمة الكتب المحرّمة، حيث ألغيت هذه القائمة عام 1966، كانت تحاول الوصول لاجابات منطقية ومحددة لتشخيص حالة المرأة في العالم كما تسائلت :"كيف وصل الحال بالمرأة إلى ما هو عليه اليوم؟ وما هي الأسباب لعدم تكتل النساء سوية ومواجهة الواقع الذكوري الذي فرض عليهن؟".
ودار كتاب "الجنس الآخر " في محورين مهمين، الأول: وضعية المرأة اليوم من خلال أربع أجزاء، مصير المرأة، مراحل تكوين المرأة، أوضاع المرأة، والفصل الرابع بعنوان تبريرات. وقد استنتجت الكاتبة من خلال هذه الفصول أنّ صورة المرأة في تلك الفترة هي نتاج للثقافة الذكورية التي تحكمت لقرون طويلة في مفاصل التاريخ، أما: الثاني من الكتاب، فقد دافعت فيه عن ضرورة مواجهة المرأة لواقعها والانطلاق نحو التحرر.
ونشرت دي بوفوار رواية المثقفون في عام 1954 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والتي بفضلها حازت على الجائزة الأدبية الأعلى في فرنسا "جائزة غونكور"، ويحلل الكتاب الحياة الشخصية لفلاسفة وأصدقاء المقربين للثنائي سارتر وبوفوار بما في ذلك علاقتها مع الكاتب الأمريكي نيلسون ألقرين والذي خصته بالإهداء. غضب ألقرين من أسلوب بوفوار الصريح في وصف علاقتهم الجسدية في كتاب المثقفون وكذلك في سيرها الذاتية.
كما كتبت دي بوفوار مذكرات لرحلاتها في الولايات المتحدة والصين ونشرت مقالاتها وبقية أعمالها بدقة خصوصا خلال الخمسينات والستينات، ونشرت أيضا العديد من القصص القصيرة ومن ضمنها" المرأة المجربة"، والتي كانت تتحدث عن التقدم بالعمر كما هي حال بعض أعمالها الأخيرة،ونُشر كتابها حين تأتي الأشياء الروحية أولاً في عام 1980، وهو عبارة عن قصص قصيره تتمحور حول أهمية المرأة في مرحلة مبكرة من حياتها، وكانت هذه القصص كتبت قبل تأليف رواية المدعوة لكن الكاتبة لم تكن في حينها تظن أن تلك القصص تستحق النشر إلا بعد 40 عاماً على كتابتها، وكان بين سارتر وميرلو بونتي علاقة عداء منذ فترة طويلة مما حدا ببونتي لترك الصحيفة وقفت بوفوار بصف سارتر وتوقفت عن التواصل مع ميرلو بونتي في سنواتها الأخيرة.
تاريخ دي بوفوار يزخر بالمؤلفات منها :"كل شيء قيل وانتهى"، و"عنفوان الحياة"، و"قوة الأشياء"، و"الموت السهل"، و"الصور الجميلة" وغيرها من مؤلفات.
كما حظيت دي بوفوار على العديد من الجوائز منها "جائزة غونكور 1954، وجائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع 1975، وجائزة النمسا للأدب الأوروبي 1978م".
غيب الموت دي بوفوار في عمر السابعة والثمانين في باريس إثر إصابتها ومعاناتها من الالتهاب الرئوي، ودفنت بجانب سارتر في باريس، ومنذ وفاتها فقد أخذت سمعتها تنمو، خصوصاً في المجال الأكاديمي حيث عدت دي بوفوار أماً للحركات النسوية لما قبل 1986، وأطلق الضوء عليها كمفكرة فرنسية وفيلسوفة وجودية، كما اكتشف بعض العلماء تأثير بعض من مقالاتها وأطروحاتها الفلسفية المبكرة على فكر سارتر فيما بعد، ويقوم العديد من الأكاديمين المرموقين بدراسة شخصية بوفوار سواء من داخل أو من خارج مجال الفلسفة بمن فيهم مارغريت سيمونز، وسالي سكولتز، وقد ألهمت حياة دي بوفوار العديد من السير ففي وكُلف المهندس المعماري لمدينة باريس ديتمار فيشتنقر، لتصميم جسر للمشاة عبر نهر السين وسُمي بجسر سيمون دي بوفوار تكريماً لها ويؤدي الجسر إلى مكتبة فرنسا الوطنية الجديدة.