يحتفل المصريون بعيد ميلاد السيد المسيح، عيسى بن مريم، ومصر تمر بكثير من التحديات، وفى مقدمتها البناء والتعمير وتحدى الإرهاب، وتقديم الشهداء ذبيحة على هيكل الوطن، والاستمرار فى بناء الدولة.
يولد المسيح وهناك متغيرات عميقة تجرى تحت السطح بولادة جيل جديد من المعترفين الجدد يجيد المقاومة السلمية والاحتجاج «الروحى الليتورجى»، ومن ثم رسم هذا الجيل شعار: «حق الصلاة مكفول فى أى مكان».. وهياكل الله فينا هياكل لحمية وليست حجرية، وهكذا حل «الاحتجاج بالصلاة» عندهم على «الاحتجاج بالتظاهر، قيادات من الشباب يقومون بتنظيم الصلاة ، والتى لايملك البعض من النخب القبطية تجاه ذلك المتغير سوى الصدمة وتأويل الاستجابة إلى أن الأمر ليس استجابة لهؤلاء القادة الجدد ولضغوطهم من أجل المواطنة بل حولوا الأمر إلى تفسيرات تخضع الدينى للسياسى وتخلط الأوراق، عكس قيادات طبيعية ولدت بنار «الفرن» من غير ضجيج ولا «شو إعلامى» مثلما يفعل أصحاب الياقات البيضاء من «الأراخنة» الذين يجلسون فى الصفوف الأولى بالأعياد فى الكاتدرائية منتظرين الشكر على صلاتهم!! قيادات حفروا الوطن على جبينهم والكنيسة فى قلوبهم، مختلفين عن أصحاب الألقاب التى تقدم نفسها مهنيا فى انتساب لأصحاب القداسة تحقيقا لمصالحهم.. لذلك كانت فرحة هؤلاء «المعترفين الجدد» بأعادة افتتاح هذا المكان الردىء التهوية والبسيط أكثر من افتتاح أكبر كاتدرائيات العالم، لأن هذا المكان تقدس بالصلاة والدموع والمقاومة الروحية.
هؤلاء هم الأمل فى استخدام آليات التفاوض، والربط بين مطالب الأقباط والإصلاح الوطنى والديمقراطى والدينى الشامل، فى ظل وطنية الكنيسة والنضال من أجل الدولة الوطنية الحديثة، التى تروى كل يوم بدماء الشهداء.
هكذا لا يولد المسيح مرة فى السنة، بل يولد كل لحظة مع ميلاد كل طفل جديد، ومع كل بداية سلام ومحبة جديدة، ومن يتأمل الحدث سيجد أن العذراء كانت حبلى فى الشهر الأخير، بما يترتب على ذلك من متاعب وآلام، ولكنها ذهبت مع خطيبها يوسف النجار إلى بيت لحم من أجل التسجيل فى محل الميلاد، استجابة لأوامر الإمبراطور الرومانى يوليوس قيصر، وتحققت النبوءات القديمة من تلك الزيارة الوطنية فى التسجيل المدنى، حينما ذكر فى الإنجيل: «يا بيت لحم، أرض يهوذا، ما أنت الصغرى فى مدن يهوذا، لأن يخرج منك رئيس يرعى شعبى»، «متى/ 2 - 6»، هكذا ارتبط الميلاد بحدث مدنى وطنى، ومن هذا المنطلق الروحى الكتابى تأسست وطنية كنائسنا القبطية، حتى أن تسميتها القبطية أولًا، ثم الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو الإنجيلية، حيث يسبق لاهوت الوطن لاهوت العقيدة.
وعلى تلك المبادئ «الوطنية المسيحية»، التى انبثقت من ميلاد المسيح، تصدت الكنيسة القبطية للمحتلين، وتعرضت إلى كل الاضطهادات من الرومان وحتى الصليبيين، ولكنها وقفت فى شموخ مع الأرض والوطن، ولم ترد العنف بالعنف، وهكذا كان الأقباط فى طليعة الشعب المصرى فى كل الثورات، ولم تكن ثورة 30 يونيو هى الثورة الأولى التى شارك فيها المواطنون المصريون الأقباط، بل كانت الثورة السادسة.. الأولى كانت 1804 حينما وقف البابا مرقص الثامن، والمعلم إبراهيم الجوهرى مع عمر مكرم، وشيخ الأزهر الشيخ الشرقاوى فى الثورة لخلع الوالى العثمانى خورشيد باشا، وتنصيب محمد على باشا، مؤسس الدولة المصرية الحديثة، وكذلك 1882 وقف البابا كيرلس الخامس بجوار أحمد عرابى، وشيخ الأزهر محمد المهدى العباسى فى وجه الخديو توفيق، وأيد البابا عرابى طوال الثورة العرابية، وبعد الاحتلال البريطانى حدث العقاب الجماعى للأقباط بالإسكندرية، فيما سُمى «مذبحة الإسكندرية»، على غرار ما حدث بعد 30 يونيو «14/18 أغسطس 2013»، وكذلك نفى البابا إلى دير البراموس 1890 من الإنجليز لمواقفه الوطنية، نفس البابا وقف بجوار «الوفد» وسعد زغلول فى ثورة 1919، جنبًا إلى جنب مع شيخ الأزهر، أبى الفضل الجيزاوى، وهكذا وقف كيرلس السادس مع جمال عبد الناصر، والحق المصرى فى استعادة الأراضى المحتلة بعد 1967، وصولًا إلى موقف البابا تواضروس الثانى من 30 يونيو، مرورًا بموقف البابا شنودة من عروبة القدس والتطبيع، مما تسبب فى احتجازه فى دير الأنبا بيشوى.. ست ثورات، وستة دساتير «1882، 1923، 1958، 1971، 2012، 2014» شارك فيها الأقباط بالدم.
ولد المسيح فى بيت لحم على مرمى بصر من القدس التى أحبها، وبكى عليها، وقال: «إنجيل متى 23: 37» «يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا»!
ومازالت كل الحوارات حول القدس تتم بعيدًا عن كونها مدينة السلام، والفكر الصهيونى اخترق أغلب العقول، وأصحاب الديانات المختلفة، ولم يعد الأمر استعادة القدس، بل استعادة العقل والضمير.. نعم إسرائيليون وفلسطينيون، أولاد إبراهيم عليه السلام، تارة النازية تضع اليهود فى أفران الهولوكست، ثم يلقى بلفور عقدة ذنب الغرب وكرة اللهب إلى أرض فلسطين «أرض الميعاد»، وتقتل الضحية الإسرائيلية ضحيتها الفلسطينية، ويخرج الطرفان من الكتب المقدسة أسفار وآيات الدم، وتقتل الضحية الإسرائيلية ضحيتها الفلسطينية، والعربان شهود، ولا أحد يفعل سوى استدعاء الله سبحانه وتعالى، مرة يهوديًا وأخرى مسيحيًا وثالثة إسلاميًا، ويتعمد ويتوضأ الضحايا بالدم للصلاة المقدسية فى محراب العربان وتجار السلاح والدين.
يولد المسيح ويتعرض للاضطهاد، لكنه لم يجد سوى مصر ليلجأ إليها، ويأمن من شر الرومان، رغم أنهم كانوا يحكمون مصر أيضًا، لكنه احتمى بأهلها لتتحقق النبوءات أيضًا «متى 2: 15»، إن لجوء المسيح إلى مصر هروب من تهديد هيرودس كان تحقيقًا لنبوّة هوشع «11 :1»، 1 «لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابنى»، هكذا ومن ثم الميلاد هو التجسد والاقتداء بالمسيح، ومن بيت لحم إلى مصر تتحقق النبوءات، كل سنة وأنتم مصريون يولد فيكم المسيح المتجدد والدائم الميلاد فيكم.