إن تجسد المسيح هو قصة الحب الإلهى، أحب الله الإنسان الخاطئ المغلوب من الخطية، الغير قادر على إنقاذ نفسه من مخالب الشر، فالحقيقة أن كل خطية يقترفها الإنسان هي فى حقيقتها عصيان لله، وكسر لوصاياه، وحياة لا تخشاه ولا تعمل رضاه .
لقد رد الله على عداء الإنسان بالحب، فلم يَصنَعْ معنا حَسَبَ خطايانا، ولم يُجازِنا حَسَبَ آثامِنا، وإنما كبُعدِ المَشرِقِ مِنَ المَغرِبِ أبعَدَ عَنّا مَعاصيَنا.
وفى قصة الميلاد نرى الله هو الذى أخذ مبادرة المحبة، فمن الملاحظ أنه عندما أخطأ آدم وسقط، لم يسع لخلاص نفسه، بل نراه على العكس من ذلك خاف وهرب واختفى من وجه الله.. كما كان يظن ويتخيل ذلك، لكن الله قام بالبحث عنه، وما زال إلى اليوم يفتش عن الإنسان وشوق قلبه أن يلتقى بكل إنسان.. فهو الذى دبر قصة الخلاص، وهو الذي يُريدُ أنَّ جميعَ الناسِ يَخلُصونَ، وإلَى مَعرِفَةِ الحَقِّ يُقبِلونَ. هكذا نجد في التجسد الدرس العملي للحب الإلهى العظيم.
كيف لا! وهو من فرط محبته، وعظيم غفرانه نجده وقد أخطأ الإنسان يسعى لمصالحته وإعادة العلاقات معه دون أن ينظر إلى خطاياه.
لهذا كان يحضر ولائم العشارين والخطاة، ويجالسهم ويأكل معهم ويحدثهم ويستمع إليهم، ويجتذبهم بالحب، حتى قيل عنه أنه... «مُحِبٌّ للعَشّارينَ والخُطاةِ». لم يحتقر ولم يقلل من الخطاة مطلقاً، لأنه كان يعلم أن الاحتقار لا يخلصهم، إنما يخلصهم الحب والاهتمام والرعاية والإفتقاد.
نعم! يجانبه الصواب مَنْ ينظر إلى الخاطئ نظرة إزدراء أو تهكم وسخرية، فالخاطئ مريض يحتاج إلى اللمسة الرقيقة والكلمة المشجعة.. والخاطئ ساقط على الطريق أنهكته الخطية، وحطمه الشر، وتركه الإثم بقايا إنسان في حاجة لمَنْ ينحنى ويحنو عليه، ويضمد جراحه، ويأخذ بيده، ويقيمه من جديد.. وهذا ما فعله الرب يسوع بتجسده، فالتجسد قصة محبة الله للإنسان الخاطئ، إنه جاء ليمنح الحياة للخطاة، الحياة الجديدة، الحياة الأفضل، الحياة الأبدية.
نعم! فكما أن الخطية صنعت من الإنسان مخلوقًا شريرًا وشرهًا، متعطشاً إلى الفساد والضياع، هكذا دفعت المحبة الرب يسوع ليتجسد على أرضنا، ليخلص الإنسان من خطاياه، ويخلقه من جديد، ويدخل معه فى عهد مجيد.
أجل! محبة المسيح فائقة المعرفة.. محبة محيرة للغاية إذ كيف يحب الله القدوس الإنسان الخاطئ الشرير؟
وهل يستحق الإنسان كل هذه المحبة والتضحية والعطاء والعناء؟ لكننا مهما حاولنا أن نبحث عن السر، فإننا لن نجد إجابة مقنعة ، وكافية ووافية إلا فى تلك الكلمة التي تألقت منذ القديم «أُحِبُّهُمْ فَضْلاً». (هوشع14: 4).
نعم! لم يكن حب المسيح بالكلام واللسان بل بالعمل والحق، لم يكن حبه شعراً بليغاً جميلاً، أو شعاراً براقاً زائفاً، بل كان تنازلاً وتجسداً وجهاداً ودموعاً ودماً وموتاً وقيامة كى يتمم للإنسان خلاصه.
فالتجسد حب فوق حد التصور... حب أكثر من الخيال... حب بلا حدود أو قيود... حب ليس له مثيل أو نظير... حب حتى الموت... حب إلى المنتهى.
وهذا المنتهى ليس معناه البعد الزمنى فقط وإنما أبعاد البذل والتضحية والعطاء الذى صنع الغفران والخلاص والفداء.
إن محبة المسيح فى عمقها تهبط إلى أعماق الجحيم، وفي علوها تصل إلى عنان السماء، وفى طولها تمتد من الأزل إلى الأبد، وفي عرضها تشمل وتغطى كل إنسان فى كل بقاع المسكونة.
لقد أراد الرسول يوحنا أن يعبر عن هذه المحبة، لكنه عجز عن التعبير ، ولم يجد مفردات اللغة التي تصف محبة الله فقال: «هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَى لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ». (يو3: 16). لأنه «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ». (يو15: 12) .
هذا ولم تعتمد محبة الله للإنسان على شىء يُحب فيه، لكن حبه للإنسان الخاطئ يعتمد على قلبه هو المحب... لا يعتمد على أى شيء جميل أو صالح في الإنسان، وإنما يعتمد فى الأساس على محبة الله الأزلية الأبدية، التى لا بداية أيام لها ولا نهاية لها أيضاً.
أبعد ذا هل تفتح قلبك لمحبته؟! ، هل تبادله حباً بحب ؟! هل تشارك يوحنا فى ترنيمته والتى تقول: " نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً؟" ، وهل تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ؟!... هل ؟!... هل؟!.