منذ بدأت الدولة المصرية تنفيذ برامج وخطط الإصلاح الاقتصادى الهيكلية، لا يكاد يمر شهر حتى تطالعنا الصحافة بأنباء وقائع وقضايا الفساد التى تضبطها هيئة الرقابة الإدارية فى هيئات وجهات تنفيذية مختلفة.
الدولة تعتبر مكافحة الفساد أحد عناصر ومقومات استراتيجيتها لبناء اقتصاد نزيه وشفاف فى رسالة واضحة للمجتمع من ناحية، والمستثمرين المحليين والأجانب من ناحية أخرى؛ ذلك أن تحجيم الفساد أحد مظاهر الاستقرار التى تعتبر شرطًا رئيسًا من شروط جلب الاستثمارات المحلية والخارجية.
غير أن كثرة وقائع الفساد وحجمها يدفع بهذا التساؤل، لماذا يصر الفاسدون على فسادهم رغم كل هذا النشاط الملحوظ لرجال الرقابة الإدارية وغيرها من الجهات المعنية بعملية مكافحة الفساد؟!.
الحيرة تَملَّكت غالبيتنا وكأن الأخبار المنشورة عن ضبط كبار المسئولين أو رجال الأعمال فى قضايا فساد تبشر بمكافآت مجزية لمن يفسد أكثر.
علماء الاجتماع والانثروبيولوجى فى الجامعات المصرية والمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية مدعوون لبحث هذه المسألة وتقديم إجابات علمية محددة، ومع ذلك قد تكون الإجابة أقرب مما نعتقد.
فى ظنى أن بعض التعريفات والمفاهيم المرتبطة بمصطلح الفساد إما غابت أو تم تشويشها فى أذهان غالبيتنا نحن الذين تملكتنا الحيرة إزاء هؤلاء الذين لم يأخذوا العبرة ممن سقطوا فى يدى العدالة؛ بمعنى قد أذهب إلى القول بأننا أنفسنا قد نرتكب الفعل ذاته دون أن ندرك أننا بذلك نفسد أو نمارس الفساد.
على سبيل المثال، أغلب الفاسدين يستغلون أماكن عملهم فى تسهيل بعض الإجراءات لأقاربهم ومعارفهم وأصدقائهم وإذا حصلوا على مقابل مادى فإنهم يسمون ذلك باللهجة العامية (مصلحة وشطارة) عوضًا عن المسمى الحقيقى وهو الرشوة والتربح واستغلال النفوذ.
فقد يقوم أحدهم بإتاحة معلومة لصاحب شركة توريدات أو مقاولات، وقد يتوسط لدى أحد زملائه من المدراء والمسئولين لتسهيل الحصول على شروط المناقصة، أو حتى المناقصة برمتها، ثم يسمى المقابل المادى الذى يدفعه صاحب الشركة بـ (العمولة)، ولأن يده لم تمتد إلى خزينة جهة عمله يعتبر نفسه موظف شريف وكل ما قام به كان سيفعله غيره لقاء العمولة أو السمسرة.
ويحدث أيضًا أن يخرج مسئول إلى المعاش ثم يقيم مشروعًا خاصًا يتصل بطبيعة عمله السابق وهذا أمر مشروع وقانونى ولا غبار عليه، لكنه عندما يحتاج إلى المعلومات أو تسهيل بعض الإجراءات، فمن الطبيعى أن يلجأ إلى زملائه الذين مازالوا فى الخدمة أو تلاميذه ومن الطبيعى أن يسارع أولاءك إلى مد يد العون، فإذا عرض المقابل يسمى حينها مجاملة أو عمولة وسمسرة مشروعة لاسيما وأن أحدًا لم يمد يده لسرقة أموال هذه الهيئة أو الوزارة وكل ما تم كان فى سياق المجاملات الإنسانية أو قضاء المصالح والمنافع المتبادلة.
للأسف الشديد هذا النوع من الجرائم يتم يوميًا بتلقائية دون أن ينتبه أطرافها إلى أنهم فاسدون.
صحيح أن الصحف ووسائل الإعلام تنشر ما يتم ضبطه من تلك الوقائع، إلا أن عملية النشر تتم فى إطار البيان الصادر عن جهة الضبط دون تفصيل يشرح ويوصف طبيعة الجرائم التى انطوت عليها مثل تلك الوقائع مثل استغلال النفوذ والتربح علاوة على الرشوة، ولا أحد يهتم فى الإعلام بتقديم شرح وافى لهذه الجرائم؛ يقرأ الخبر كمادة جافة تشيد بجهود الجهات الرقابية دونما مساحة كافية لإعادة تذكير الناس بالتعريفات والمفاهيم الأصلية للفساد؛ لذلك عندما كانت تنشر الصحافة المصرية واقعة فساد فى تسعينيات القرن الماضى والعشرية الأولى من الألفية الثالثة تقوم الدنيا ولا تقعد.
هناك فتوى رسمية تجيز للراشى دفع الرشوة للموظف المتعنت للحصول على حقه وهى امتداد لمقولات رجال دين كبار وصفوا الرشوة بأنها نوع من الإعانة للموظف الفقير بسبب راتبه الضئيل، وبعض المثقفين المتحزلقين يرون أن ضعف الرواتب مرده إرادة أنظمة سابقة عملت على إدارة شئون البلاد والعباد عن طريق إفساد موظفيها عمدًا عبر منحهم أجورًا متدنية، ولم ينتبه هؤلاء المتحزلقون إلى أن السبب الرئيس لضعف الرواتب هو انتهاج الدولة فى ستينيات القرن الماضى مبدأ تعيين كل من يتخرج فى الجامعة دون اعتبار لحاجة العمل، وهو نهج استمر حتى حكومة المهندس عصام شرف الذى أثقل كاهل الجهاز الحكومى بأكثر من مائة ألف موظف جديد دون حاجة حقيقية لهم، وبالطبع لا يعتبر هؤلاء المثقفون هذه السياسية فى حد ذاتها نوع من الفساد فى الإدارة ولا أقول فى الذمم؛ ذلك أن الهدف من وراءها فى ظنى كان سياسيًا فى الدرجة الأولى.
وجود الواسطة والمحسوبية وعدم تكافؤ الفرص أسباب أخرى تجعل الفاسد لا ينظر إلى نفسه باعتباره فاسدًا وإنما شخص يحاول أخذ حقه الذى سلب بسبب تلك الأمراض الإدارية والاجتماعية التى تصنف بالأوبئة ومازلنا نعانى منها؛ فإذا تمكن المسلوب حقه فى يوم اتبع ذات الأساليب ليحصل على ما هو ليس من حقه.
قبل أشهر طالعتنا الصحف بتقرير مفاده زيادة ملحوظة فى جرائم سرقة الكهرباء، وهذه ظاهرة تستحق الدراسة، فلماذا قرر مواطن شريف فجأة أن يتحول إلى لص؟! وهل تبرر قرارات رفع أسعار الطاقة مخالفة القانون والضمير والخروج على تعاليم الشرائع السماوية؟! مع ملاحظة أن نفس هذا المواطن قد يكون من الذين يحرصون على الصلاة والصيام ودفع الزكاة.
الدروس الخصوصية وإجبار تلاميذ المدارس عليها مقابل النجاح فى امتحانات الشهر صورة أخرى لغياب المسميات الحقيقية لجرائم الابتزاز واستغلال النفوذ والرشوة مجتمعة فى المدرس الذى يرتكب ذلك الفعل تحت شعار تحسين دخله وللأسف يعاونه أولياء الأمور عندما يرضخون لابتزازه ويدفعون ثمن الدرس الخصوصى مقابل نجاح أبنائهم؛ هو فى الواقع رشوة ولا مسمى له غير ذلك.
الصنايعى أو الحرفى الذى يغش فى صنعته مبتزًا الزبون وتسامحنا مع ذلك كله دون أن نسميه فسادًا يموع المصطلح فى العقل الجمعى وهو ما يجعل من الفساد ثقافة تسود وتعم من الأسفل إلى الأعلى دون أن نشعر بل يجعل منا أفرادًا يمارسون الفساد وهو يظنون أنهم يحسنون صنعًا لتحسين حياتهم.
فى ظنى أن الإعلام منوط به أن يكف عن التعامل مع قضايا ووقائع الفساد بشكل دعائى وأن يذهب إلى معالجة هذه القضايا كمشكلات اجتماعية وثقافية ليلعب دورًا ليس فى مكافحة جرائم الفساد وإنما فى القضاء على البيئة المساعدة على نشاط وتكاثر بكتيريا القيم الفاسدة والمفاهيم العطبة وربما يكون أجدر به شن حملات ضد هذا الخطاب الدينى الذى يسوغ الرشوة بتلك الفتوى المأفونة التى تجاوزت آثارها التعامل مع الموظف المتعنت المرتشى إلى ما هو أبعد من ذلك فيما يسميه العامة بالمصلحة أو الشاى أو السبوبة أو تسهيل الإجراءات مقابل العمولة والسمسرة.