حين حج الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بيت اللّه الحرام وقد صحبته الشرطة والعسس واحتفت به المرتزقة والوجوه والأعيان من أهل الشام.
و قد جهد على استلام الحجر الأسود فلم يستطع لازدحام الحجاج وتدافعهم على تقبيل الحجر.
و لم يعن أحد بهشام ولم يفسحوا له!
كيف لا وقد انعدمت الفوارق في ذلك البيت العظيم وقد نصب له منبر فجلس عليه وجعل ينظر إلى أفواج الطواف.
وإذا بقمر بني هاشم علي زين العابدين (عليه السلام) يقبل ليؤدي طوافه وقد بصر به بعض من يعرفه من الحجاج فنادى بأعلى صوته:
"هذا بقية اللّه في أرضه
هذا بقية النبوة..
هذا إمام المتقين
و سيد القوم علي زين العابدين".
فكبر الحجيج وارتجت جنبات الحرم من أصوات هتافهم:
الله أكبر..
"لبيك يا ابن بنت رسول الله".
حينذاك غمرت الحجاج هيبة الإمام التي تعنو لها الوجوه والجباه وهي تحكي هيبة جده رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعالت الأصوات من جميع جنبات المسجد وانفرج الناس له شاقين له الطريق وهو بينهم فكان السعيد من يقبل يده ويلمس إحرامه وضج البيت بالتكبير وذهل أهل الشام وبهروا من هذا المنظر الرهيب فإنهم لا يرون أحدا جديرا بالتكريم والتعظيم فينظر غير الأسرة الأموية وحسب!
بادر الشاميون إلى هشام بن عبد الملك قائلين: من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة؟
فتميز هشام من الغيظ وانتفخت أوداجه وبرزت عينه الحولاء وصاح بهم قائلًا:
لا أعرفه!!
و إنما أنكر معرفته للإمام مخافة أن يرغب فيه أهل الشام ويزهدوا في بني أمية!
و كان الفرزدق شاعر العرب الكبير حاضرا فاستيقظ ضميره واستوعب الحق فكره..
و قد أخذته الرعدة فاندفع بحماس قائلا لأهل الشام:
أنا أعرفه.
قالوا: من هو يا أبا فراس؟
و ذعر هشام وفقد صوابه مخافة أن يعرفه الفرزدق إلى أهل الشام فصاح به:
أنا لا أعرفه.
و علا صوت الفرزدق بالإنكار عليه قائلا: بلى تعرفه..
و التفت الفرزدق صوب أهل الشام قائلا: يا أهل الشام من أراد أن يعرف هذا الرجل فليأت، وتحرك الشاميون وغيرهم نحو شاعر العرب الأكبر وقد استحالوا إلى أذن صاغية..
و انبرى الفرزدق وكله حماس لنصرة الحق فارتجل قصيدته العصماء التي مثلت صدق القول وجمال الأسلوب فكان مما جاء فيها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمهذا ابن خير عباد الله كلهم هذا النقي التقي الطاهر العلم'وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجمكلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدمسهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم_ ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم_ مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم_ هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا.
فلما قالها انصرفت وجوه الناس من هشام إلى ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كانت هذه القصيدة الباكية والشادية في آن واحد تعبيرا صادقا عن العاطفة الجياشة للفرزدق و للسواد الأعظم من الناس نحو الأطيبين المطهرين من بضعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وإن حاول البعض لي عنق النصوص والثوابت في ديننا الحنيف.
المفارقة العجيبة ومن خلال تتبعي لسيرة الشاعر الفرزدق (الهمام بن غالب بن صعصعة) هذا الرجل المحسوب على البلاط الأموي، والذي لم أكن لأتوقع ولو للحظة أنه سيقول هذه الأبيات، وأمام رأس هرم السلطة وهو يعرف النتيجة سلفًا، لكني استدركت هوى نفسي وآمنت بأن الفطرة التي فطر الله عليها الناس تظل حاضرة وحية مهما كانت المغريات.
كانت كلمات الفرزدق ضربة موجعة للسياسة الأموية..
حتى أن هشام بن عبد الملك ثار وخرج من اهابه حينما سمع بهذه القصيدة وود أن الأرض قد ساخت به فقد دللت على واقع الإمام العظيم وعرفته لأهل الشام الذين جهلوه وجهلوا آباءه فقد أشاد الفرزدق بمنزلة الإمام وجعل الولاء له جزءا لا يتجزأ من الإسلام وانه أفضل إنسان تضمه سماء الدنيا في ذلك العصر.
أمر الملك باعتقال الفرزدق فاعتقل وأودع في سجون عسفان وهو منزل يقع ما بين مكة والمدينة وبلغ ذلك الإمام زين العابدين (عليه السلام) فبعث إليه باثني عشر ألف درهم فردها الفرزدق واعتذر من قبولها وقال: إنما قلت فيكم غضبا للّه ورسوله فردها الإمام عليه فقبلها وجعل الفرزدق يهجو هشاما ومما هجاه به:
أيحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعين له حولاء باد عيوبها
رحم الله الفرزدق الشاعر الكبير الذي قيل إنه بقصيدته تلك قد حجز مقعدا في الجنة.
ورضي الله عن زين العابدين "علينا" إمام من أئمة آل البيت إليه يمتد النسب النبوي الشريف إلى قيام الساعة.
آراء حرة
الفرزدق وصرخة الحق بين الحجيج
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق