يوم البشارة
هو أعظم يوم في حياة مريم
لوقا 1: 26- 38
الإنجيل هو الخبر السار الذي يحمل أهم مبادرة إلهيّة وهي مبادرة التجسّد "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِيالرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ." (1 تيموثاوس 3: 16). هذه المبادرة سُجِلَت في الأناجيل الأربعة وإن اختلفت في رصدها ولكن تعبر عن تكامل في قصة الميلاد حول شخص المسيح. إنجيل البشير مرقش يبدأ بخدمة المسيح مباشرة "بدء إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ" (مرقس 1: 1) وإنجيل متى 1- 2 ولوقا 1- 2 يتكلمان عن الولادة الجسديّة للمسيح بينما يتكلم إنجيل يوحنا عن الوجود الأزليّ للمسيح حين بدأ حديثه عن الكلمة "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ." (يوحنا1: 1).
نقف عند إنجيل البشير لوقا الذي يتميز في التجسّد بالتركز على الدور النسائيّ حيث يتكلم الملاك مباشرة إلى مريم العذراء (لوقا 1: 26- 38) وذلك في تمايز مع البداية التي بدأ بها إنجيل متى حيث يبدأ الإعلان مع يوسف (متى 1: 18- 24). وستكون الرسالة التي أحب أن أشارك بها في هذه المناسبة تحت عنوان: يوم البشارة أعظم يوم في حياة مريم.
من خلال رحلة الحياة يتذكر منا كل شخص يومًا فاصلاً في حياته، وهناك يوم لا ينساه الإنسان، هذا اليوم يأتي بخبرة سلبيّة أم إيجابيّة فهناك يوم فرح، يوم حزن، يوم فقد، يوم حادثة، يوم ترقية، يوم تغيير، لدرجة أن الناس أطلقت على بعض الأيام يوم أسود وآخر أبيض.
تتعدَّد الأيام في حياة الشخص ولكن بكل تأكيد هناك بعض الأيام التي لا تنسى. وإذا طبقنا ذلك على مريم العذراء سنجد أن تاريخ ولحظة ويوم بشارة الملاك له هو يوم لا ينسى، فقد غير حياتها من فتاة عادية تحيا في بلد متواضعة إلى أن تصبح أشهر نساء العالمين. وترى هذا اليوم كان إنفراجة بين السماء والأرض "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ." (لوقا 2: 14). نرى في هذا اليوم يوم تلقي خبر البشارة ثلاثة أمور هامة في حوار مريم مع الملاك ورد فعلها:
1- الدهشة،2- الامتياز،3- الخبرة.
أولاً: الدهشة
كانت قمة المفاجأة لدى مريم هي سماعها للملاك وللرسالة، ورد الفعل كشف عن معدن هذه الفتاة، والمشاعر التي أظهرتها تبين واقعيتها في الحياةالذي يتمثل في الإحساس بالخوف وعدم الاستحقاق، مع حياة التواضع. كانت لحظة البشارة هي قمة المفاجأة، لماذا؟ لأن هناك تدرج في سرد القصة في غاية الأهمية تدرج في المكان وتدرج في المكانة، فمن إسرائيل، ومن الجليل، ثم الناصرة، ومن بيت يوسف، ومن امرأة "وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُالْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلمِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ." (لوقا 1: 26- 27).
أمام هذا الشعور سألت اندهشت مريم: "مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ" (لوقا 1: 29) وسألت سؤلاً مشروعًا: "كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟(لوقا 1: 34). ورد الفعل هذا بين أنَّ مريم كانت ترى نفسها برؤية واقعية دون تضخيم للذات، وقد عبَّرت عن مفهوم روحي وتقوي عميق. فهي فتاة مخطوبة تتطلع إلى المستقبل مثلها مثل أي فتاة ولكنها تفهمت الموقف بكل خضوع وحب.
القدرة على تمييز الأمور وطرح الأسئلة يدل على قراءة جيدة للمشهد، طرح الأسئلة أمر في غاية الأهمية لوصول للفهم والبحث عن اليقين، والسؤال يأتي من الدهشة ومريم كانت نموذجًا طيبًا لطرح السؤال العميق والصعب كيف يكون لي هذا؟ وهو السؤال الذي ما زال يطرح كيف يكون التجسّد؟ والسؤال تلقى إجابة هي: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًاالْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ." (لوقا 1: 35). وهو نفس سؤال نيقوديموس "أَجَابَ نِيقُودِيمُوسُ وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذَا؟" (يوحنا 3: 9). وسؤال السامرية "قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَلَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟" (يوحنا 4: 11).
ثانيًا: الامتياز
أمام التواضع العظيم الذي أظهرته مريم، وأمام فهمها وإدراكها لموقف، وأمام خوفها واضطرابها نالت مجموعة من الامتيازات، وهي:
1-
منعم عليها
: "سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا
الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا
! اَلرَّبُّ مَعَكِ" (لوقا 1: 28)، "لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ
قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ
" (لوقا 1: 30).2-
معية الله
: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا!
اَلرَّبُّ مَعَكِ
(لوقا 1: 30). قبل أن يقول الملاك ليوسف "هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُعِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا." (متى 1: 23). عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا تمتعت مريم بهذه المعية. وهي نفس الكلمات التي أكدَّ عليها المسيح في نهاية إنجيل متى بالقول: "وَعَلِّمُوهُمْ أَنْيَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِالدَّهْرِ. آمِينَ." (متى 28: 20).3-
حلول الروح القدس
: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ،فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ." (لوقا 1: 35). حلّالروح القدس عليها قبل يوم الخمسين فنالت قوة من الله.
من خلال هذه الامتيازات الثلاث تحولت مريم من هول المفاجأة والدهشة إلى التسليم الكامل لله: فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. (لوقا 1: 38). والسؤال كيف ننجز أمورًا عظيمة في حياتنا؟ انجاز هذه الأمور يعود أولاً وأخيرًا إلى: نعمة الله، معية الله، عمل الروح القدس. وبدون ذلك لا نستطيع أن نفعل شيء.
ثالثًا: الخبرات
عاشت مريم مجموعة من الخبرات العظيمة ويمكن أن نجملهم في ثلاث خبرات وهي: خبرة الخلاص، خبرة الألم، خبرة الطاعة.
1-
خبرة الخلاص:
في إنشودة مريم "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِيبِاللهِ مُخَلِّصِي." (لوقا 1: 46- 47)، والمهمة الأساسية التي جاء من أجلها المسيح هي: "فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُشَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ»." (متى 1: 21). ما أورع أن نختبر مع مريم بهجة وفرح الخلاص من خلال شخص المسيح وحده "وَلَيْسَ بِأَحَدٍغَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَالنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ»." (أعمال 4: 12).2-
خبرة الألم
: كان كلام سمعان لمريم: "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِسَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ»." (لوقا 2: 35). دهشة الخبر، وفرح الميلاد، قابل مريم بقصة كبيرة مع الألم بدأت برحلة الهروب إلى مصر، ورفض المسيح، إلى أن انتهت بأن ترى يسوع المسيح معلقًا على الصليب. في الحياة نجتاز ونختبر الألم حتى لو كنا في طاعة كاملة لله، ونلمس حلول الروح القدس ومعية الله ومنعم علينا.3-
خبرة الطاعة
: قصة الميلاد تخبرنا بأن مريم فتاة أطاعت، وخضعت للرب. قبلت الهروب إلى مصرة حماية للصبي، ومن قبل قبلت الرسالة رغم صعوبة الموقف، كما قبلت انشغال المسيح عنها لمواصلة مهمته العظمى التي أتى من أجلها. تألمت ووسط ألمها كانت خاضعة للرب، اندهشت ووسط اندهاشها كانت خاضعة للرب فَقَالَتْمَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا 1: 38). والتي أطاعت أعطت إرشادات للعمال في معجزة تحويل الماء إلى خمر "قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»." (يوحنا 2: 5). وهي نموذج لكي نطيع ونخضع في حياتنا من خلال علاقتنا بالله وبكلمته.
في الختام نتيقن أنَّ الله يتعامل معنا من خلال الاندهاش، والامتيازات، والخبرات؛ لنختبر في الحياة خلاص الرب ومعيته، وهذا هو لب وجوهر الميلاد حسب قول الملاك ليوسف: "فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُمِنْ خَطَايَاهُمْ. وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: هُوَذَاالْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا. (متى 1: 21- 23)
القس عيد صلاح
راعي الكنيسة الإنجيلية بعين شمس-القاهرة