ميلاد المسيح خبرٌ يرويه لنا الإنجيل في أولى صفحاته،ليكون أساسًا للإيمان بهذا الخَبَر. فما حدث في بيت لحم منذ أكثر من ألفيّ عام نقله لنا الإنجيل في مواضع أخرى منه بصور أكثر عُمقًا وأكثر أهميَّة من مجرَّد خبر وحدث. ففي بيت لحم استُعلِن ابن الله بصورة فائقة وسريَّة، فاستطاعت الحواس الإنسانيَّة، كالسَّمع بالآذان، واللمس باليدان، وبالرُّؤية العينيَّة، والمُشاهدة العقليَّة، أنْ تُدرك هذا الإعلان السِّري الفائق. الأمر الذي دوَّنه يوحنا في افتتاحيَّة رسالته الأولى (1: 1-5). لكنَّه أراد أن ينقلنا من ذلك الخَبر إلى الخِبرة به، فقال: "نُخْبِركم به، ليكون لكم أيضًا شركة معنا". إنَّه أمر عظيم جدًّا أن ينقلنا الإنجيل هذه النَّقلة الجديدة، من الخَبر بالميلاد إلى الخِبرة الميلاديَّة. يُعلن يوحنا هنا بوضوح وتأكيد أنَّ هذا الخَبر لابدَّ أن ينقلنا إلى حالة شركة مُساوية تمامًا لحالة الشَّركة التي اختبرها الرُّسل أنفسهم، الذين رأوا المسيح بعيونهم، ولمسوه بأيديهم، وسمعوه بآذانهم. ومع ذكريات عيد الميلاد المجيد، نُريد أن ننتقل هذه النَّقلة الهامَّة، من معرفة الخَبر إلى الخِبرة به، من الإيمان إلى الشَّركة، من التَّصديق إلى الفرح الحقيقي.
ما الذي حدث في بيت لحم؟
لا يبدأ يوحنا رسالته بداية تقليديَّة كباقي الرَّسائل، ولا يختمها بتحيَّات ختاميَّة كباقي الرَّسائل أيضًا، ومع ذلك لرسالته تلك طابع شخصي قوي. فهي (عظة محبَّة قَلِقة)، صادرة من راعٍ مُحبٍّ لرعيَّته، حريص كلَّ الحِرص على سلامتها. كانت تلك الرَّعيَّة من الجيل المسيحي الثاني والثالث، وكانت روعة الأيام المسيحيَّة الأولى قد بدأت تنكمش إلى حدٍّ كبير. لم تكُن هناك اضطهادات على الكنيسة، لكنَّها كانت تُعاني ممَّا هو أخطر، من المعلِّمين الكذبة، الذين لم يؤمنوا بأنَّ يسوع هو المسيَّا، وكانوا يُنكرون حقيقة التَّجسُّد.
فكتب يوحنا هذه الرِّسالة الدِّفاعيَّة عن الإيمان الصَّحيح، وبدأها مباشرة بالحديث عن المسيح من دون مقدِّمات. مقدِّمًا خبرته الشَّخصية في المسيح يسوع، هو وجميع الرُّسل.
بدأ إنجيله بهذا الخَبر: "الكلمة كان الله... والكلمة صار جسدًا" (يوحنا 1: 14،1)، وبدأ رسالته الأولى بخبر ثانٍ: "إنَّ الحياة أُظْهِرَت، وقد رأينا ونَشْهَد، ونُخْبِركم بالحياة الأبديَّة التي كانت عند الآب وأُظْهِرَت لنا" (1يوحنا 2:1). هذان خبران، الأول: الكلمة صار جسدًا. والثَّاني: الحياة الأبديَّة التي كانت مخفيَّة عند الآب، قد أُظهرت لنا في المسيح. إلى هنا نحن بصدد خَبر نُصدِّقه ونؤمن به وننطقه كشهادة، أنَّ الله ظهر في الجسد، وأنَّ الحياة الأبديَّة أُظهرت في المسيح. لكن المطلوب منَّا بعد ذلك هو أن ننتقل هذه النَّقلة:
أولاً: من خَبر ظهور الله في الجسد في يسوع المسيح في بيت لحم، إلى خِبرة الشَّركة معه.
ثانيًا: من خَبر أنَّ الحياة الأبديَّة أُظهرت لنا في بيت لحم، إلى خِبرة الشَّركة في تلك الحياة.
هنا في بيت لحم خِبرتان نُريد أن ندخُل فيهما مع الله، بحسب دعوة الرَّسول يوحنا. الخِبرة الأولى مع شخص المسيح، باعتباره كلمة الله المتجسِّد، متمَثِّلة في هدايا المجوس المُقدَّمة للطِّفل يسوع، والسُّجود والعبادة له. والخِبرة الثانية مع الحياة الأبديَّة التي يُعطيها المسيح، متمَثِّلة في فرح الرُّعاة الذي نالوه عندما ظهر لهم الملاك وأخبرهم، فخبَّروا فرحين بما اختبروه.
الخِبرة الأولى، خِبرة المجوس، خِبرة تعبُّديَّة، خِبرة السُّجود والعبادة للمسيح الطِّفل المولود في بيت لحم. صحيح أنَّ بيت لحم لم تُعطِ إلاَّ صورة مصغَّرة جدًّا عن المسيح، لأنَّ يسوع هنا طفل. وأين الطِّفل يسوع من الصَّليب؟ لكن هؤلاء المجوس استطاعوا أن يستحضِروا أكثر من ثلاثين سنة، فعبدوه كمخلِّص وسجدوا له كإله وقدَّموا له ذهبًا ولبانًا ومرًّا، باعتباره الملك والكاهن والفادي.
أما الخِبرة الثَّانية فهي خِبرة الرُّعاة، خِبرة الفَرح العظيم، ليس لأنَّ ملاكًا ظهر لهم، بل لأنَّ الحياة الأبديَّة ظهرت. صحيح أنَّها ظهرت في بيت لحم بصورة مصغَّرة أيضًا، لأنَّها لم تستكمِل صورتها إلاَّ بعد القيامة والصُّعود وحلول الرُّوح القدس يوم الخمسين، إلاَّ أنَّ عيونهم انفتحت في ذلك اليوم نحو السَّماء المفتوحة، فقبلوا بشارة الحياة الأبديَّة بفرحٍ عظيم. حتى أنَّهم ذهبوا مُسرعين مُخبِّرين بذلك الخَبر وتلك الخِبرة، خِبرة الفرح العظيم.
كيف ندخل إلى الخِبرة الأولى، التعبُّدية؟
كيف ندخل في شركة حيَّة فعَّالة مع الطِّفل يسوع، باعتباره الرَّب المخلِّص؟ قد يبدو الأمر صعبًا، لأنَّ الخلاص مرتبط بالفداء والصَّليب والدَّم، فكيف نربطه بطفولته؟ إنَّنا نستمدُّ من طفولته طفولة روحيَّة نستطيع أن ندخل بها ملكوت السَّماوات، بحسب قوله "إنْ لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلَن تدخلوا ملكوت السَّماوات" (متى 3:18). فلا طريق للدُّخول إلى ملكوته إلاَّ بالطُّفولة، ولا سبيل لنا أن نصير أطفالاً بحسب شروطه، إلاَّ بأن تكون لنا خِبرة حيَّة مع الطِّفل يسوع. وسوف تظلُّ بيت لحم مجرَّد قصَّة ورواية عن خَبر ميلاد المسيح، إلى أن ندخل في شركة حيَّة معه. حينئذٍ تتغيَّر صورة بيت لحم في عقولنا وقلوبنا، وتتحوَّل إلى خِبرة حياتيَّة جديدة. ولن تكون بيت لحم مجرَّد مكان ميلاد الطِّفل يسوع، بل مكان ميلاد خِبرة وعِشرة جديدة لنا مع الرَّب. خِبرة نستمدُّ منها قوة البراءة والطَّهارة والبساطة، قوة نُداوي بها جراحاتنا وعيوبنا وأمراضنا، التي نمت وكبرت فينا مع الأيام والسِّنين. قوة نواجه بها الظُّروف الصَّعبة، قوة اطمئنان الابن في حضنِ أبيه وثقته في قُدرته. لقد ضمن الله لنا هذه القوة في الطِّفل يسوع، إذ قال إشعياء: "يولد لنا وَلَدٌ".
كيف ندخل إلى الخِبرة الثانية، الفرح؟
كيف ندخل في شركة حيَّة فعَّالة في الحياة الأبديَّة التي أظهرها لنا الآب في ابنه يسوع، ونختبر فرحًا عظيمًا بتلك الخِبرة؟ إنَّ الحياة الأبديَّة هي حياة الله فينا، حياة لا موت فيها، ولا سلطان للموت عليها. هذه الحياة، لا يُمكن أن تكون بمفردها من دون شخص الله. لقد ظلَّت مخفيَّة في الآب، لأنَّ الله لم يرهُ أحدٌ قط، إلى أن وُلِد المسيح ابن الله ولبسَ جسدًا بشريًّا حقيقيًّا، ورأينا فيه صفات الله غير المنظورة. فيقول عنه يوحنا: "الكلمة صار جَسَدًا.. نُخبركم به لكي يكون فرحكم كاملاً". لقد ظهرت الحياة الأبديَّة لأول مرَّة على الأرض يوم ميلاد المسيح في جسد بشريّ. وبذلك أصبح بالإمكان أن توجد حياة أبديَّة في جسد إنسان، هذا ما تمَّ فعلاً وأصبح واقعًا في بيت لحم.
وإذ يقول إشعياء "يولد لنا ولدٌ ونُعْطَى ابْنًا" (إشعياء 6:9)، فإنَّه يشير إلى ما وُهب لنا في شخص المسيح. لقد وُهبت لنا طفولته العجيبة، بكلِّ غنى الطُّفولة الإلهيَّة. لا لكي نتسلَّى بها، كما تتسلَّى الأسرة بميلاد طفل جديد لها، ثمّ إذ يكبر تنسى طفولته، بل لكي تبقى معنا طفولة إلهيَّة فعَّالة إلى منتهى شيخوختنا وشيخوخة العالم كلِّه. طفولة كُلّها لُطف ووداعة وحنان وبساطة.
إذًا، فاليوم الذي ولد فيه المسيح، هو اليوم الذي ظهرت فيه الحياة الأبديَّة، الذي اختَبر فيه رُعاة الأغنام خِبرة الفرح العظيم بولادة ذلك المُخلِّص لأجل جميع الشَّعب. كما أنَّ الحياة الأبديَّة هي حياة المسيح الأصليَّة التي كانت له قبل أن يولد. وقد أتي إلى العالم لكي يفتح الباب إلى إمكانيَّة أن يكون البشر شُركاءه في تلك الحياة. إذًا،فالأمر ليس مجرَّد خَبر عن ولادة المسيح وتجسُّده، لكنَّها دعوة إلى خِبرة الشَّركة الحيَّة والفرح العظيم. واحتفالنا بميلاد المسيح يجب أن يرافقه انتقالنا من الخَبر إلى الخِبرة، من الإيمان إلى الشَّركة، من التَّصديق إلى الفرحالعظيم.
يقول يوحنا: "هذا هو الخَبَر الذي سمعناه مِنْه ونُخْبِركم به، أنَّ الله نورٌ وليس فيه ظُلْمةٌ الَبتَّة". فالشَّركة التي يدعونا إليها هي شركة الحياة والنُّور والحُبّ. لذلك يقول أيضًا: "مَن قال إنَّه في النُّور وهو يُبغِض أخاه، فهو إلى الآن في الظُّلْمَة. مَن يُحِبُّ أخاهُيثبُت في النُّور وليس فيه عثرة.. وأمَّا مَن يُبْغِض أخاه، فهو في الظُّلمة، وفي الظُّلْمة يسلك، ولا يعلَمُ أين يَمْضي، لأنَّ الظُّلْمَة أعْمَتْ عَيْنَيْه" (1يوحنا 11،9:2).
إنَّ يوم ميلاد المسيح هو يوم ميلاد الحياة والنُّور والحُبّ، ميلاد إنسانيَّة جديدة. لقد سَكَنت حياة الله، الحياة الأبديَّة، أرض الإنسان واتَّحدت بطبيعة الإنسان. ويوحنا يدعونا إلى الشركة في هذه الحياة، شركة الفرح العظيم الكامل في يسوع الطفل. شركة في نور الطُّفولة الإلهيَّة، شركة في الحُبِّ الإلهي الفائق للطَّبع البشري. إنَّه هو الذي يأخُذ المُبادرة دائمًا، وهو الذي يدعونا للشَّركة معه في بيت لحم. إنَّه خَبر عظيم، وخِبرة أعظم وأعمق معروضة علينا مجَّانًا.