ترأس البابا فرنسيس بابا الفاتيكان القداس الالهي الاحتفالي بعيد الظهور الالهي “ الغطاس” ، أمس الخميس في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان.
وتخلل صلاة القداس عظة القاها قداسة البابا فرنسيس وقامت بنشرها الصفحة الرسمية للفاتيكان قائلاً : سار المجوس إلى بيت لحم. ورحلة حجّهم تُحدِّثنا نحن أيضًا: نحن مدعوّون إلى السير نحو يسوع، لأنّه هو النجمة القطبية التي تنير سماء حياتنا وتوجّه خطواتنا نحو الفرح الحقيقي. ولكن، من أين انطلقت رحلة حجّ المجوس للقاء يسوع؟ وما الذي دفع هؤلاء الرجال القادمين من المشرق لكي ينطلقوا في رحلة
تابع البابا فرنسيس : لقد كانت لديهم حجج جيّدة لكي لا ينطلقوا. كانوا حكماء وعلماء فلك، وكانوا ذوي شهرة ومال. وإذ كانوا قد بلغوا حالة من الاستقرار الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، كان بإمكانهم أن يكتفوا بما يعرفونه وبما يملكونه، ويبقوا مستريحين. لكنّهم سمحوا بأن يُقلقهم سؤال وعلامة: "أَينَ هو الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق...". لم تسمح قلوبهم بأن تتخدّر في وكر اللامبالاة، بل كانت عطشى إلى النّور. ولم تتلكّأ تعبة في الكسل، بل كان يُشعلها الشّوق لآفاق جديدة. لم تكن عيونهم موجّهة إلى الأرض، بل كانت نوافذ مفتوحة على السماء. كما أكّد البابا بندكتس السّادس عشر: كانوا "رجالاً قلوبهم قلقة... رجال في انتظار، لا يكتفون بدخلهم المضمون ووضعهم الاجتماعي... بل كانوا يبحثون عن الله.
وتسال البابا فرنسيس قائلاً: من أين يولد هذا القلق السّليم الذي دفعهم إلى الترحال؟ من الرغبة. هذا هو سرّهم الداخلي: أن يعرفوا كيف يرغبون. لنتأمل في هذا. إنَّ الرغبة تعني أن نُحافظ على النار التي تشتعلُ فينا مُتَّقدة والتي تدفعنا لكي نبحث أبعد من الفوري والمرئي. إنها أن نقبل الحياة كسرٍّ يفوقنا، وكثغرة مفتوحة على الدوام تدعونا لكي ننظر إلى أبعد، لأنّ الحياة ليست "كلّها هنا" وإنما هي أيضًا "في مكان آخر". إنّها مثل قماش لوحة بيضاء تحتاج للألوان. كتب الرّسّام الكبير فان غوغ أنّ الحاجة إلى الله كانت تدفعه لكي يخرج ليلًا ليرسم النّجوم. نعم، لأنّ الله قد صنعنا هكذا: جبلنا بالرّغبة، ووجّهنا، مثل المجوس، نحو النّجوم. نحن ما نرغب به. لأنّ الرّغبات هي التي توسّع نظرنا وتدفع الحياة لكي تذهب أبعد: أبعد من حواجز العادة، وأبعد من حياة جعلها الاستهلاك تافهة، وأبعد من إيمان متكرِّر ومُتعَب، وأبعد من الخوف من المخاطرة، فنلتزم من أجل الآخرين ومن أجل الخير. إن حياتنا – كان القديس أوغسطينوس يقول – هي تمرين للرّغبة".
تابع البابا فرنسيس : كما كان الأمر بالنسبة للمجوس، هو أيضًا بالنسبة لنا: إنّ رحلة الحياة ومسيرة الإيمان تحتاجان إلى الرغبة، والدفع الداخلي. نحن بحاجة إليهما ككنيسة. وبالتالي من الجيّد أن نسأل أنفسنا: أين نحن في مسيرة الإيمان؟ ألسنا عالقين منذ فترة طويلة داخل دين تقليديّ، دين مظاهر، ورسميّات، لم يعد يدفئ القلب ويغيّر الحياة؟ وكلماتنا وطقوسنا الدينيّة هل تثير في قلوب النّاس الرّغبة لكي يتحرّكوا نحو الله، أَم أنها "لغة ميتة" تتكلّم عن نفسها ولنفسها؟ إنّه لأمر محزن عندما تفقد جماعة المؤمنين الرّغبة، وتتعب وتجرُّ نفسها في إدارة أمورها بدلاً من أن تسمح للمسيح بأن يفاجئها بفرح الإنجيل الرائع والمُزعج.
وأضاف البابا فرنسيس بإنّ أزمة الإيمان، في حياتنا وفي مجتمعاتنا، تتعلّق أيضًا بغياب رغبتنا بالله. وتتعلّق أيضًا بسُبات الروح، وبعادة اكتفائنا بعيش حياتنا اليومية دون أن نسأل أنفسنا عما يريده الله منّا. لقد انطوينا كثيرًا على خرائط الأرض، ونسينا أن نرفع نظرنا نحو السّماء، نحن مُشبعون بأمور كثيرة ولكنّنا محرومين من الحنين إلى ما ينقصنا. لقد ركّزنا على احتياجاتنا، وعلى ماذا سنأكل وماذا سنلبس، وسمحنا بأن يتبخّر الشوق لما هو أبعد. ووجدنا أنفسنا في حالة من الشّرَهِ المَرَضي لجماعات تملك كلّ شيء، وغالبًا ما لم تعد تشعر بأيّ شيء في قلبها. لأنّ غياب الرّغبة يؤدّي إلى الحزن واللامبالاة.
تابع البابا فرنسيس يقول ولكن لننظر أوّلًا إلى أنفسنا ونتساءل: كيف هي مسيرة إيماني؟ إن الإيمان لكي ينطلق وينطلق مجدّدًا يحتاج لأن يُطعَّم بالرغبة وأن يخاطر في مغامرةِ علاقةٍ حيّة وحيويّة مع الله. لكن، هل ما زالت الرغبة في الله تحرِّك قلبي؟ أم سمحت للعادة واليأس بأن يُطفئآها؟ اليوم هو اليوم الذي نطرح فيه هذه الأسئلة على أنفسنا. اليوم هو اليوم لكي نعود ونُغذّيَ هذه الرغبة. وكيف نفعل ذلك؟ لنذهب إلى "مدرسة الرّغبة" إلى المجوس. ولننظر إلى الخطوات التي قاموا بها ولنستخلص منها بعض التعاليم. أولًا، انطلقوا عند ظهور النّجم: وبالتالي هم يعلّموننا أنّه علينا أن ننطلق يوميًّا مجدّدًا على الدوام، في الحياة وفي الإيمان، لأنّ الإيمان ليس درعًا يجمِّدنا ويمنعنا من الحركة، بل هو مسيرة خلَّابة، وحركة مستمرّة وقلقة، في بحث دائمٍ عن الله. من ثَمَّ في أورشليم سأل المجوس: أين هو الطّفل. وبالتالي هم يعلّموننا أنّنا بحاجة للأسئلة، ولكي نصغي بتنبُّه إلى أسئلة قلبنا وضميرنا، لأنّ هكذا يكلّمنا الله غالبًا، ويتوجّه إلينا بالأسئلة، أكثر منه بالأجوبة. ولكن لنسمح بأن تُقلقنا أيضًا أسئلة الأطفال، وشكوك، وآمال ورغبات أناس زمننا. لنسمح تُطرح علينا الأسئلة.
أضاف الحبر الأعظم يقول كذلك تحدّى المجوس هيرودس. وهكذا هم يعلموننا أنّنا بحاجة إلى إيمان شجاع، ونبوي، لا يخاف من أن يتحدّى منطق السلطة المظلم، ليصبح بذرة عدالة وأخوّة في مجتمع لا يزال فيه العديد من أمثال هيرودس اليوم، يزرعون الموت ويرتكبون المجازر بحقِّ الفقراء والأبرياء، إزاء لا مبالاة الكثيرين. أخيرًا، رجع المجوس "في طَريقٍ آخَرَ": وبالتالي هم يتَحَدَّوْنَنا لكي نسلك طرقًا جديدة. إنه إبداع الرّوح القدس الذي يجدّد الأمور على الدوام. وهذه أيضًا إحدى مهام السّينودس: أن نسير معًا في الإصغاء، لكي يلهمنا الرّوح القدس دروبًا جديدة، دروبًا لكي نحمل الإنجيل إلى قلوب الذين ما عادوا يبالون، والبعيدين والذين فقدوا الرجاء ولكنّهم يبحثون عمّا وجده المجوس: "فَرَح عَظيم جِدًّا". ولكن في ذروة رحلة المجوس، نجد لحظة حاسمة، وهي: عندما وصلوا إلى وِجهتهم، "جَثَوا له ساجدين". سجدوا. لنتذكّر هذا الأمر: إنَّ مسيرة الإيمان تجد دفعها وتمامها فقط في حضرة الله. وبالتالي إذا استعَدْنا لذّة العبادة والسجود، إذاك فقط ستتجدّد الرغبة. لأنّ الرّغبة إلى الله تنمو فقط بحضورنا أمام الله. ولأنّ يسوع وحده هو الذي يشفي الرّغبات. من ماذا؟ من دكتاتوريّة الاحتياجات. إن القلب في الواقع، يمرض عندما تتوافق رغباتنا مع احتياجاتنا فقط. أما الله فهو يرفع رغباتنا، ويطهّرها، ويداويها، ويشفيها من الأنانيّة ويفتحنا على محبّته ومحبّة الإخوة. لذلك لا ننسينَّ السجود أبدًا ولنتوقّف أمام القربان المقدّس، ولنسمح ليسوع بأن يغيّرنا.
واختم البابا فرنسيس عظته بالقول عندها سيكون لدينا اليقين على مثال المجوس، أنّه حتّى في أشدّ الليالي ظلامًا هناك نجم يضيء. إنّه نجم يسوع الذي جاء ليعتني ببشريّتنا الضّعيفة. لِنَسِرْ نحوه. ولا نسمَحنَّ للامبالاة والاستسلام بأن يسمِّراننا في حزن حياة تافهة. إنَّ العالم ينتظر من المؤمنين دفعًا مُتجدِّدًا نحو السّماء. لنرفع رؤوسنا، على مثال المجوس، ولنصغِ إلى رغبة قلوبنا، ونتبع النّجم الذي جعله الله يسطع فوقنا. وكباحثين قلقين، لِنبقَ منفتحين على مفاجآت الله. ولنحلم ونبحث ونسجد.