يعتبر الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، أحد أبرز فلاسفة "الوعي الحديث"، كما كان لبرجسون نفوذاً واسعاً وعميقاً فقد أذاع لونا من التفكير وأسلوباً من التعبير ترك من خلاله بصماته على مجمل النتاج الفكري في مرحلة الخمسينيات، ولقد حاول برجسون أن ينقذ القيم التي أطاحها المذهب المادي، ويؤكد إيمانا لا يتزعزع بالروح، يتزامن اليوم ذكرى رحيل برجسون لعام 1941م بفرنسا، عن عمر يناهز الـ 82عاماً.
يعتبر المثالي الفرنسي هنري برجسون من كبار ممثلي اللاعقلانية المعاصر الذي ولد في 18 أكتوبر 1859 بفرنسا ، كان بارعاً في مزجه بين الأفكار، التي استعارها من اللاعقلانية الألمانية (شيلنج في أواخر أيامه، وشوبنهاور)، وبين الأفكار الروحانية واللاعقلانية، التي أخذها من المثاليين الفرنسيين.
حظي برجسون إبان حياته بشهرة واسعة الانتشار في فرنسا تؤثر في دوائر مختلفة فلسفية ودينية وأدبية حدث له العكس تماماً بعد وفاته إذ حدث انصراف تام أو شبه تام عن فلسفته حتى صارت تقبع في ظلال النسيان ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.
من أهم مؤلفات برجسون :(ينبوعا الأخلاق والدين) و(التطور الخالق) و(الطاقة الروحية) و(المادة والذاكرة).
الحياة النفسية لبرجسون:
تحدث برجسون عن خصائص الحياة النفسية وكيف تتحقق في الحياة النامية فالكائن الحي ليس مجرد مركب من "عناصر سابقة" الحياة شيء غير العناصر وشيء أكثر من العناصر فالكائن الحي يدوم ديمومة حقة إذ أنه يؤكد وينمو ويهرم ويموت وهذه ظواهر خاصة به لا تبدو بأي حال في المادة البحتة وليست الأنواع الحية ناشئة من اصول متجانسة نمت وتحولت بتأثير القوى الفيزيائية والكيميائية بطريقة الصدفة العمياء.
المخ والعقل عند برجسون:
قال برجسون "إننا بطبيعتنا نميل إلى النزعة المادية، لأننا نميل إلى التفكير في صيغة المكان، ولكن الزمان أمر جوهري كالمكان، ولا شك أن الزمان هو جوهر الحياة، وقد يكون جوهر الحياة كلها، وما ينبغي علينا فهمه هو أن الزمان تراكم ونمو ودوام، والدوام هو استمرار تقدم الماضي الذي تتزايد أحداثه قليلاً إلى أن يتضخم ويكون المستقبل، فليس الإنسان، كما يقول برجسون آلة ميكانيكية كما صوره الماديون لا حول لها ولا قوة، بل مركز قوة منبهة، وقوة خالقة متطورة، وينتج عن الإدراك حرية الإرادة، وكوننا احراراً يعني اننا نعرف ما نفعل، وبالتالي يخطئ اذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، انما هو كائن مدرك، حر الإرادة قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق وانشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه، إذن ليس العقل والمخ شيئاً واحداً، صحيح ان الإدراك العقلي يعتمد على المخ وينحط معه، ولكن كما تعتمد الملابس على علاقة الملابس تهوي معها اذا ما سقطت من مكانها، لذلك نستنتج أن العقل عند برجسون ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة لان هذا مطلب فوق مقدوره، واكثر مما يستطيع، اذ أن العقل كما بينا يميل إلى إستعمال الوجود لصالحه، وهذا يتطلب منه وقف تيار الحياة الذي يدب في الكون وتجزئة الوجود ليتمكن من دراسته جزءاً جزءاً، فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود، أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه.
اختلاف الفلسفة عند برجسون :
إن فلسفة برجسون لاعقلانية، كفلسفة نيتشه، لكنها تتميز عنها بأن النزعة اللاعقلانية فيها جاءت أقل جلاءً وأخف وطأة.
كما يرى برجسون أيضا أن "المهمة الأساسية للفلسفة هي "التخلص من وجهة نظر العقل"، ذلك أن الحياة، وهي جوهر العالم لاعقلانية، تماماً كمحاولاتنا العقيمة للإدراك ، إن برجسون ينطلق من الحدس باتجاه أعماق الوعي الذاتي، ثم إلى الوعي المجرد غير المرتبط بذات معينة، إلى الروح، التي هي عنده جوهر الحياة والكون بأسره وبعدها ينتقل من الذهن والفعل إلى الخارج، إلى الاجسام، التي يمتلئ بها المكان، إلى المادة، ذلك إن نفاذ الحدس إلى أعماق حياة الوعي يكشف عن ماهيتها الباطنية، عن ديمومتها، التي هي عند برجسون شعور الذات بالزمن، إن الديمومة "أساس وجودنا، وجوهر الأشياء جميعاً.
التعارض بين الديمومة وعالم الحياة النفسية عند برجسون:
إن التعارض بين الديمومة وعالم الحياة النفسية عند برجسون الركيزة الأولى لنقد العقل، والموضوع الأساسي لفلسفته، أما الركيزة الثانية في نقد العقل فهي الفصل بين النظر والعمل، بين المعرفة والفعل، ومعارضة أحدهما بالآخر، لكن برجسون يعترف أن الإنسان، بوصفه جسماً فيزيائياً أو كائناً حياً، مضطر للعيش وسط الاشياء المادية، الضرورية لحياته، وهو يرى أن أفعال الجسم الإنساني تصدر عن الدماغ، العاجز عن توليد التصورات، والذي لا يمت بصلة إلى النشاط الواعي، وأن العمليات النفسية لا ترد إلى العمليات، التي تتم في الجسم، وهكذا فان الفصل بين المادة والروح يتخذ، عند برجسون، شكل التوازي النفسي الفيزيولوجي المتطرف.
المذهب الفلسفي والحدس المتعالي عند برجسون :
ان عيب الفكر الميتافيزيقي لا يدفع ببرجسون إلى تبني الفكر الديالكتيكي، وإنما يؤدي به إلى التخلي النهائي عن الفكر المنطقي، كأداة للوصول إلى الحقيقة، وحين يحاول البرهنة على عجز العقل عن إدراك الحركة والحياة، فيستعيض عن الحركة والعمليات القائمة موضوعيا بالديمومة، أي بمعاناة الذات لتيار الوعي، وبما أن الحياة كما تنص الموضوعة الأساسية في فلسفة برجسون، وفي فلسفة الحياة عموما لا عقلانية، لا يعبر عنها بالمفاهيم المنطقية، فان برجسون يرفض جميع السبل العقلية لمعرفة ماهيتها، وفي الوقت ذاته يحاول البرهنة على إمكانية الوقوف على هذه الماهية، وذلك من خلال مذهبه الفلسفي، وهكذا تصبح الحياة متاحة للمعرفة، لكن بواسطة الحدس المتعالي.
آراء برجسون الاجتماعية :
تكتمل لاعقلانية برجسون في آرائه الاجتماعية، التي تتميز بنزعة بيولوجية صارخة تشوبها الصوفية والروحانية، ذلك إن العلاقة الموضوعية القائمة بين الناس تعود، في رأي برجسون، إلى عوامل بيولوجية محضة، فليس ثمة اختلاف بين المجتمع البشري وقرية النمل، ففي كليهما تقف الغريزة أساساً للحياة المشتركة وتنظيمها.
ويطلق برجسون على الاجتماع البيولوجي للناس اسم المجتمع المغلق، الذي يضم الناس ضمن حدود القبيلة، أو المدينة والدولة، لكن الإنسان، في نظره، ليس حيواناً فحسب، وإنما هو كائن روحي أيضاً، وإن الطبيعة الإنسانية تنطوي على بدايات روحية، وهي توجد في تماس دائم مع الطاقة والإرادة الإلهية، المتغلغلة في كافة أشياء العالم، وليس هناك من حدود لاقتراب الإنسان روحياً من القدرة الإلهية، وذلك بالنظر إلى طبيعة الإنسان المزدوجة، هناك نوعان من العلاقات الاجتماعية، ونمطان من الاخلاق والدين، ففي المجتمع المغلق تسيطر الأخلاق المغلقة، التي ترمي إلى تدعيم وصيانة كيان الجماعة.
الأفكار السياسية لبرجسون :
يتناول برجسون بعض الأفكار السياسية الرئيسية، فهو يشيد بالديمقراطية لأنها من بين كل النظم السياسية هي التي تعلو في مقاصدها على الاقل على ظروف المجتمع المغلق.،ويرى برجسون ان السلام محاولة لتجاوز حالة الطبيعة الموجودة في المجتمع المغلق، إذ الاصل في الحروب هو الملكية سواء أكانت فردية أم جماعية، ويشيد بقيام عصبة الأمم، لكنه يرى أن منظمة دولية تهدف إلى القضاء على الحروب يجب أن تعمل للقضاء على الأسباب المؤدية للحروب، تلك الأسباب هي تضخم السكان وعدم توزيع الثروة توزيعاً عادلاً.
كتاب المصدران الأساسيان للأخلاق والدين لبرجسون :
أصبح برجسون في بداية القرن العشرين أستاذاً في الكوليج دوفرانس، وهي أعلى مؤسسة علمية في فرنسا، وفي عام 1914 انتخبوه عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ثم سافر عدة مرات إلى الولايات المتحدة لإقناع الرئيس ويلسون بدخول الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، ثم استقال برجسون من التعليم العالي عام لكي يكرس نفسه كلياً للشؤون الدولية والسياسية وفي عام 1927 تلقى جائزة نوبل للآداب، وخلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته لم يؤلف إلا كتاباً واحداً هو: "المصدران الأساسيان للأخلاق والدين"، وفيه يعمق المنظور الديني لفلسفته ثم مات منغصا عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كانت فرنسا محتلة من قبل الألمان.