ينفتح الشعر على التجربة الإنسانية اللانهائية، متحركًا في فضاء الخيال والدهشة، محاولا إعادة بناء الوجود عبر أصواته الحميمية القريبة من روح المتلقي، ويُعد الشعر هو الوسيلة الأكثر فاعلية في التعبير عن الأحلام والانفعالات والهواجس التي تجوب الوعي الإنساني واللاوعي أيضًا، وتتنوع روافد القصيدة من حيث الموضوع والشكل ليستمر العطاء الفني متجددا ودائما كما النهر..
تنشر "البوابة نيوز" عددا من القصائد الشعرية لمجموعة من الشعراء يوميا.
واليوم ننشر قصيدة بعنوان "الوقت" للشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر، الشهير بـ "أدونيس".
حاضِنًا سُنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:
ما الدّمُ الضّاربُ في الرّملِ، وما هذا الأفول؟
قُلْ لَنا, يا لَهَبَ الحاضِرِ، ماذا سنقول؟
مِزَقُ التّاريخِ في حُنجرتي
وعلى وجهي أماراتُ الضّحيّهْ
ما أَمَرَّ اللّغةَ الآنَ وما أضيقَ بابَ الأبجديّهْ
حاضنًا سنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:
أصديق صار جلادا، أجار قال:
ما أبطأ هولاكو؟
من الطارق؟ جاب؟
أعطه الجزية أشكال نساءورجال صور تمشي أشرنا وتساررنا
خطانا خيط قتل
أترى قتلك من ربك آت أم نرى ربك من قتلك آت
ضيّعته الأحجية
فانحنى قوسا من الرعب على أيامه المنحنية .
لي أخ ضاع أب جنّ وأطفالي ماتوا
من أرجّي؟هل أضم الباب هل أشكو إلى منفضة؟
هات الحق وامنحه الشفاء
من عطوس الفقهاء.
شعر مزج هذا الشرر الفاجع بالعين انخطاف
أن ترى بيتك مرفوعا إلى الله شظايا
لمن النملة تعطي درسها؟
ماهذا الوجع ؟ما هذا النداء؟
جُثَثٌ يقرؤُها القاتِلُ كالطُّرْفَةِ أَهْراءُ عِظامٍ,
رأسُ طِفْلٍ هذه الكتله أم قطعةُ فَحْمٍ
جسَدٌ هذا الذي أشهدُ أم هيكلُ طينٍ
أَنحني, أرتُقُ عينين وأَرفو خاصِره
ربّما يُسعفُني الظنُّ ويَهديني ضياءُ الذّاكره
غيرَ أنّي عبثًا أَسْتقرىءُ الخيطَ النَّحيلْ
عبثًا أجمعُ رأسًا وذراعينِ وساقين لكيْ
أكتشفَ الشّخصَ القتيلْ
صرخت بومة عرّاف على مئذنة
نسجت من صوتها قوس قزح
وبكت مخنوقة حتى الفرح.
حاضِنًا سنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:
كَشَفَ البهلولُ عن أسرارِهِ
أَنّ هذا الزّمَنَ الثّائرَ دُكّانُ حِلّيٍ
أنّه مُسْتَنْقَعٌ من أنبياء
كشفَ البهلولُ عن أَسْرارِهِ
سيكونُ الصِّدقُ موتًا
ويكون الموتُ خُبْزَ الشّعراءْ
والذي سُمّي أو صارَ الوطَنْ
ليس إلاّ زمنًا يطفو على وجهِ الزَّمَنْ.
أين مفتاحك يا أبهة الطوفان,لطفا أغرقيني
وخذي آخر شطآني خذيني
سحرتني لجة لاهبة
سحرتني قشة تحترق
سحرتني طرق تجفل منها الطرق.
حاضِنًا سنبلةَ الوقت ورأسي برجُ نارٍ:
نسيت نفسي أسرار هواها
نسيت ميراثها المكنون في بيت الصور
لم تعد تذكر ما تلفظه الأمطار ما يكتبه حبر الشجر
لم تعد ترسم إلا
نورسا يقذفه الموج إلى فيء سفينة
لم تعد تسمع إلّا
معدنا يصرخها صدر المدينة
قمر ينشق مربوطا إلى سرة غول من شرر
لم تعد تعرف أن الله والشاعر طفلان ينامان على خد الحجر.
نسيت نفسي أشياء هواها
ولذا يرعبني الظل الغد المرتسم
ولذا يملؤني الريب ويستعصي علي الحلم
موثقا أركض من نار لنار
غصت تحت العرق الدافق من جسمي وقاسمت الجدار
أرق الليل خطى الليل وحوش.
ومرارا قلت للطفل الذي كنت أناديك أجبني
كيف لي أن أجد الرغبة أن أسترجع النكهة في خمر الوجود؟
كيف لي أن أحضن الأرض وأن أكسر أطواق الحدود؟
ومرارا قلت للشعر الذي يرسب في ذاكرتي :
أي منشار على عنقي يملي آية الصمت ؟لمن أروي رمادي ؟
وأنا أجهل أن أنتزع النبض وأرميه على طاولة
وأنا أرفض أن أجعل من حزني طبلا للسماء
فلأقل : كانت حياتي
بيت أشباح وطاحون هواء.
حاضِنًا سنبلةَ الوقت ورأسي برجُ نارٍ:
شَجرُ الحبّ بقصّابينَ آخى
شَجَرَ الموتِ ببيروتٍ وهذي
غابَةُ الآسِ تُؤَاسي
غابةَ النَّفْي كما تدخلُ قَصّابينُ في خارطةِ
العشْبِ وتَسْتَقْطِرُ أحشاءَ السّهولْ
دخلَتْ بيروتُ في خارطةِ الموتِ.. قبورٌ
كالبساتينِ وأشلاءٌ حقولْ
ما الذي يسكبُ قصّابينَ في صيدا وفي صورٍ
وبيروتُ التي تَنسكبُ
ما الذي في بُعدِه يقتربُ
ما الذي يمزجُ في خارطتي هذي الدِّماءْ
يبسَ الصّيفُ ولم يأتِ الخريفْ
والرّبيعُ اسْوَدَّ في ذاكرةِ الأرضِ الشّتاءْ
مثلما يرسمُه الموتُ: احتضارٌ أو نزيفْ
زمنٌ يخرجُ من قارورةِ الجَبْرِ ومِن كفِّ القضاءْ
زمنُ التّيه الذي يَرْتَجلُ الوقتَ ويجترّ الهواءْ
كيف من أينَ لكم أن تعرفوهْ
قاتِلٌ ليس له وجْهٌ له كلُّ الوجوهْ..
حاضِنًا سنبلةَ الوقْتِ ورأسي برجُ نارٍ:
مُنْهَكٌ أَلْتفِتُ الآنَ وأَسْتشرفُ ما تِلك الخِرَقْ
أتواريخٌ؟ إبلدانٌ؟ أَراياتٌ على جُرْفِ الغسَقْ؟
هُوذا أقْرأُ في اللّحظةِ أجيالاً وفي الجُثّةِ آلاف الجُثَثْ
هوذا يغمرُني لُجُّ العَبَثْ
جسدي يُفْلِتُ من سَيْطرتي
لم يعدْ وجهيَ في مِرْآتِهِ
ودمي يَنْفُرُ من شَرْيانِهِ..
أَلأنّي لا أرى الضّوءَ الذي يَنقلُ أحلامي إليهْ؟
ألأنّي طَرَفٌ أقْصى من الكونِ الذي بارَكَهُ غيري وجَدّفْتُ عليهْ
ما الذي يَجْتَثُّ أعماقي ويمضي
بين أدغالٍ من الرّغبة, بلدانٍ محيطاتِ دموعٍ
وسلالاتِ رموزٍ
بين أَعْراقٍ وأجناسٍ عصورٍ وشعوبٍ
ما الذي يفصلُ عن نفسيَ نَفْسي
مَا الذي يَنقضُني؟
أَأَنا مُفْتَرقٌ