صدرت حديثًا عن وزارة الثقافة الفلسطينية، مختارات شعرية جديدة للكاتب والشاعر عبدالله عيسى، تحت عنوان "أدنى من سماء".
ومن القصائد المنشورة بالكتاب:
لا تعُدْ يا غريبُ
تركتُ الستائِرَ بيضاءَ في غرفتي،
والوسادةَ،
والكأسَ بيضاءَ مِنْ غيرِ ماءٍ،
وحبرَ الوصيّةِ مُندلِقاً مثل ضوءٍ عجوزٍ على جبهتي،
وغطاءَ السريرِ الّذي نِمتَ فيه ثلاثَ ليالٍ سويّا.
وسبّابتي، بعدَ أن رفعتْ بيْ الشهادة َ، مثلَ وليمةِ سطْوٍ،
على جنباتِ زِنادِ المسدّس بيضاءَ أيضاً.
وهذا الظلامُ يحّدقُ بي.
لم يعُدْ أيّ شيءٍ هنا يشبِهُ أيّ شيءٍ هناكَ.
كأنّ يديْ ظلّ شاهدةٍ لِسِوايَ،
لعلّي سمعتُ اسمَهُ بينَ حربينِ
في سِيرِ الذاهبينَ إلى حَتفِهمْ عنوةً،
أو قرأتُ اسمَهُ في قوائمِ قتلى الوباءِ الأخيرِ.
وعينيّ عينَا غُرابٍ كَسِيحٍ على رأسِ تمثالِ غوته
يُلاحِقُ آخرَ ريشاتِهِ
في الدخانِ المبلّلِ باللعَناتِ على عتباتِ الجحيمِ.
كأنّي على جبلٍ لا أكلّمُ نفسيَ،
فيما تقيمُ الشعوبُ القديمةُ في لغتي،
والفلاسفةُ العارفونَ بنَسْلِ الطبيعة ِوالكائناتِ،
وآلهةُ الأممِ المطمئنّةِ للحبَ ينبتُ في صلواتي،
وينمو كحقلَيْ سنابلَ بين ذِراعيّ،
واللاجئونَ إليّ بموتِ الزهورِ على الشرُفاتِ،
وموتى بلا رحمةٍ فقدوا دمَهمْ في مدُنٍ متعفّنةٍ ،
وشفاهٍ لم تعدْ تستطيعُ الهبوطَ إلى النهرِ
حتى تقلّدَ ثيرانَ إشبيليا قبلَ بدءِ مصارعةٍ تنتهي بتبادلِ قبّعةِ الماتادورَ.
أنا ملحُ أرضٍ مُباركةٍ خانَهُ الأقربونَ،
وأفسدَها العابرونَ،
وأوصى بها الفاتحونَ لغيري،
أسيرُ وحيداً،
وتتبعُ صوتي البحارُ، وسورُ المدينةٍ،
والهندباءُ التي نبتتْ في أهازيجِ بحّارةٍ لم يعودوا،
وليسَ سوى شجرٍ ميّتٍ في مخيلَةِ الغرباء الَّذين أقاموا على جنَباتِ سريري،
وغرقى يئنّون تحت وسائدهم.
لستُ أحتاج هذا القناعَ لأعترفَ الآنَ أنّي حقيقةُ أمري،
وليسَ بمقدورِ قاتليَ المتمرّسِ أنْ يحجبَ الضوءَ عن فكرتي.
ما صعدتُ على الطودِ كي يصطفيني إلهي على الكائناتِ،
ولم أبنِ لي هيكلاً لأصلّي على من أضاعوا شواهدهُمْ في قبورٍ جماعيةٍ،
أو حروب تجوسُ خلالَ الديار،
وتسبي بلا رحمة في طريقِ الخروجِ إليّ مزاميرَ شعبي،
ولم آتِ في سِيَرِ الأوّلين بتاجٍ من الشوكِ فوق جبيني
سوى كي أقومَ،
وأصرخَ في سِفرِ من شاءَني ميّتاً في الأساطيرِ؛
يا خالقي في السماواتِ!
شكراً لأنّيَ مازلتُ حيّاً.
عبدالله عيسى هو كاتب وشاعر ودبلوماسي فلسطيني مقيم بالعاصمة الروسية موسكو. وهو محلل سياسي، مخرج ومنتج أفلام، حائز على عديد من الجوائز العربية والدولية المرموقة، يعتبر من أبرز شعراء الحداثة العرب منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما أطلق عليه العديد من الألقاب، منها "شاعر فلسطين في المنفى".