ترأس البابا فرنسيس عند العاشرة من صباح اليوم السبت، القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس، احتفالا بعيد القديسة مريم أم المسيح ، ولمناسبة اليوم العالمي الخامس والخمسين للسلام تحت عنوان "الحوار بين الأجيال، التربية والعمل: أدوات من أجل بناء سلام دائم".
وللمناسبة ألقى الحبر الأعظم عظة استهلها بالقول: وجد الرعاة "مريمَ ويوسُف، والطِّفلَ مُضْجَعًا في المِذوَد، إنَّ المذود هو علامة فرح للرعاة: إنه التأكيد لما سمعوه من الملاك، إنه المكان الذي يجدون فيه المخلص. وهو الدليل أيضًا على أن الله هو بقربهم: وُلِد في مذود، وهو شيء يعرفوه جيّدًا، مُظهرًا هكذا أنّه قريب ومألوف. لكن المذود هو علامة فرِحة لنا أيضًا: يسوع يلمس قلوبنا بولادته صغيرًا وفقيرًا، ويبعثُ فينا الحب بدلاً من الخوف.
وتابع: يخبرنا المذود مُسبقًا أنّه سيجعل من نفسه طعامًا لنا. وفقره هو بشرى سارة للجميع، لاسيما للمهمشين، والمنبوذين، والذين ليس لهم أهميّة في عيون العالم. هناك يأتي الله: بدون أي مسار تفضيلي وحتى بدون مهد هذا هو جمال رؤيته مُضْجَعًا في مذود.
وقال البابا فرنسيس، لكن بالنسبة لمريم، والدة الإله، لم يكن الأمر كذلك. بل كان عليها أن تتحمّل "عار المذود". هي أيضًا، قبل الرعاة، نالت إعلان ملاك، كلّمها بكلمات جليلة، مُتحدِّثًا عن عرش داود: "ستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع.
وأضاف: سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود". والآن يتعين عليها أن تضعه في مذود للحيوانات كيف نجمع عرش الملك والمذود الفقير معا؟ كيف نوفِّق بين مجد العلي وبؤس اسطبل؟ لنفكر في صعوبة والدة المسيح ، لا شيء أقسى بالنسبة لأمٍّ من رؤية ابنها يعاني من البؤس؛ إنّه أمر يجعلنا نشعر بالإحباط. لا يمكننا أن نلوم مريم إذا اشتكت من كل هذا الأسى غير المتوقع. لكنها لم تفقد عزيمتها ولم تتأفف بل بقيت صامتة، إختارت أسلوبًا آخر بدل التذمّر: "كانَت مَريمُ – يقول الإنجيل – تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها".
أضاف الحبر الأعظم يقول إنه أسلوب تصرّف مختلف عن أسلوب الرعاة والناس. فهم أخبروا الجميع بما رأوه: الملاك الذي ظهر في منتصف الليل، وكلماته عن الطفل. والناس، لدى سماعهم لهذه الأمور، كانوا يتعجّبون مما يُقال لَهم: كلمات ودهشة. أما مريم فتبدو مستغرقة في التفكير. تحفظ وتتأمّل في قلبها. إنهما موقفان مختلفان ويمكننا أن نجدهما فينا أيضًا. تُذكِّرنا رواية ودهشة الرعاة بحالة بدايات الإيمان.
وقال هناك كان كل شيء سهل ومتسلسل، وكان الأشخاص يبتهجون بحداثة الله الذي يدخل الحياة، ويضفي جوًا من الإعجاب في جميع جوانبها. بينما أنَّ موقف مريم التأملي هو تعبير عن إيمان ناضج وراشد. إيمان لم يولد وحسب، بل أصبح مولّدًا أيضًا. لأن الخصوبة الروحيّة تمر عبر المحن. من هدوء الناصرة والوعود الزاهية التي نالتها من الملاك - بدايتها - تجد مريم نفسها الآن في إسطبل بيت لحم المُظلم. ولكن هذا هو المكان الذي أعطت فيه الله العالم. وبينما كان آخرون سيشعرون باليأس أمام عار المذود، كانت هي تحفظ وتتأمّل.
وتابع الأب الأقدس يقول لنتعلم من والدة المسيح هذا الموقف: أن نحفظ ونتأمّل. لأننا نحن أيضًا قد نضطر إلى تحمل بعض لحظات "عار المذود". نتمنّى أن يسير كل شيء على ما يرام ثم تأتي، مثل صاعقة سماء صافية، مشكلةٌ غير متوقعة. وينشأ تصادم مؤلم بين الانتظارات والواقع. يحدث هذا الأمر أيضًا في الإيمان، عندما يُمتحن فرح الإنجيل في موقف صعب يجد فيه المرء نفسه. ولكن والدة المسيح تعلمنا اليوم أن نستفيد من هذا التصادم. وتُظهر لنا أنه ضروري، وأنه الدرب الضيق لكي نصل إلى الهدف، والصليب الذي بدونه لا يمكننا أن ننهض أبدًا. إنها مثل الولادة المؤلمة التي تُعطي الحياة لإيمان أكثر نضجًا.
أضاف الحبر الأعظم يقول ولكن كيف نقوم بهذه الخطوة، كيف نتغلب على الصدام بين المثالي والحقيقي؟ بالتصرف تحديدًا على مثال مريم: الحفظ والتأمل. أولاً مريم تحفظ أي أنها لا تُبدِّد، ولا ترفض ما يحدث. تحتفظ بكل شيء في قلبها، كل ما رأته وسمعته. الأشياء الجميلة، مثل تلك التي قالها لها الملاك وتلك التي أخبر بها الرعاة. وإنما أيضًا الأشياء التي يصعب قبولها: الخطر الذي واجهته بسبب حملها قبل الزواج، والآن يأس الإسطبل الذي وَلدت ابنها فيه. هذا ما تفعله مريم: هي لا تنتقي ولا تختار، بل تحفظ. تقبل، ولا تحاول أن تموِّه الحياة أو أن تجمِّلها.
تابع البابا فرنسيس يقول ثم هناك الموقف الثاني: الحفظ بالتأمّل. إنَّ الفعل الذي يستخدمه الإنجيل يذكِّر بالتشابك بين الأشياء: فمريم تقارن بين خبرات مختلفة، وتجد الخيوط الخفية التي تربطها. وفي قلبها وصلاتها تُتمِّم هذه العملية الرائعة: تربط الأمور الجميلة والسيِّئة؛ لا تفصلها عن بعضها البعض، بل تجمعها. وهكذا تفهم المعنى الكامل، منظور الله؛ وفي قلبها، قلب الأم تفهم أن مجد العلي يمر عبر التواضع؛ تقبل مُخطّط الخلاص، الذي من أجله كان على الله أن يضّجِع في مذود. ترى الطفل الإلهي الضعيف والمرتجف، وتقبل التشابك الإلهي الرائع بين العظمة والصغر.
أضاف الحبر الأعظم يقول هذه النظرة الإدماجية، التي تتخطّى التوترات بالحفاظ على الأشياء في القلب والتأمل بها، هي نظرة الأمهات. إنها النظرة التي من خلالها تُعانق العديد من الأمهات أوضاع أبنائهنَّ. إنها نظرة ملموسة لا تسمح لليأس بأن يسيطر عليها، ولا تنشلُّ إزاء المشاكل، بل تضعها في أفق أوسع. تبادر إلى ذهني وجوه الأمهات اللائي يعتنين بابنٍ مريض أو يواجه صعوبة ما. ما أعظم الحب الموجود في عيونهنَّ، إذ يعرفنَ بينما يبكين كيف يبعثنَ دوافعًا للرجاء! إن نظرتهنَّ هي نظرة واعية، بدون أوهام، لكنها تقدم، أبعد من الألم والمشاكل، منظورًا أوسع، منظور العناية والحب الذي يجدد الرجاء. هذا ما تفعله الأمهات: يعرفن كيف يتغلبن على العقبات والصراعات، يعرفن كيف يبعثنَ السلام. وهكذا يمكنهنَّ أن يحوِّلنَ الشدائد إلى فرص للولادة الجديدة والنمو. ويقُمنَ بذلك لأنهنَّ يعرفن كيف يحافظن على خيوط الحياة معًا. هناك حاجة إلى أشخاص قادرين على نسج خيوط الشركة التي تتناقض مع الخيوط الشائكة الكثيرة للانقسامات.
تابع الأب الأقدس يقول يبدأ العام الجديد تحت شعار الأم. إنَّ النظرة الوالديّة هي السبيل لكي نولد من جديد وننمو. تنظر الأمهات، والنساء إلى العالم لا لكي يستغلَّنَّه وإنما لكي تكون له الحياة: ومن خلال النظر بالقلب، يتمكنَّ من الحفاظ على الأحلام والواقعية معًا، ويتجنَّبنَ الانجراف في البراغماتية العقيمة والمجرّدة. وبينما تمنح الأمهات الحياة وتحفظ النساء العالم، لنجتهد جميعًا لكي نُعزز الأمهات ونحميَ النساء. ما أكبر العنف الموجود ضد المرأة! كفى! إن إيذاء امرأة ما هو إهانة لله الذي أخذ بشريّته من امرأة.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول في بداية العام الجديد، لنضع أنفسنا تحت حماية هذه المرأة، والدة الله التي هي أمنا. ولتساعدنا لكي نحفظ جميع الأمور ونتأمّل بها، دون أن نخاف من التجارب، وفي اليقين الفرح بأن الرب أمين ويعرف كيف يحول الصلبان إلى قيامة.