الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

طواف الذكريات قبل وداع الإمارات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سألت نفسي ما معنى الجنة؟ هل هي مكان أم أشخاص؟ أم مكان وأشخاص؟ هل هي مقرونة بالراحة؟ أم أنه من الممكن أن يكون هناك عمل في الجنة؟ وتكون المتعة في أن الله من يدير الأمور هناك.. في الواقع أن أجدها في الأشخاص.. آراها فيهم.. أتمناها فيهم.. أرى جبر الله فيهم.

خلال فترة عملي مع الدكتور عبد الرحيم كان بيننا أحاديث كثيرة منها ما هو في العمل ومنها ما هو إنساني، إذ أنني منذ الوهلة الأولى رأيت الرجل بعين القلب وكأن الله أراد أن أرى الرجل بتلك النظرة بعدما فقدت والدي في لحظة وصرت الكبير وكان لابد أن أكون الكبير جدارة حتى تنتظم عربات القطار من خلفي.

بدعاء أمي أراد الله أن يختصر لي سنوات التعلم كما قدر لي من قبل من علموني، فقدر لي أن أسير في طريق هذا الرجل ليصب لي في عقلي وقلبي خلاصة سنوات قطعها حبوا وسيرا وركضا حتى وصل إلى إنسانيته التي لا يعرفها الكثير عنه.

يد سماوية أسقطتني في غرفته بين أسرته وأحبابه.

قبل سنوات قرر أن يزور قريته واصطحبني معه ومجموعة من الصحفيين، كنت في ليال كثيرة أسرح في خيال أن أغادر قريتي وأنجح ثم أعود.. فكيف يكون الاستقبال! كنت أتفحص في خيالي وجوه المحبين والأعداء.. أبكي من الفرح ومن الحزن في خيالي ثم أفيق فأجد  نفسي في فراشي؟ وما بين الخيال والواقع رأيت أناس كثر يعودون فتلتهمهم الجدران والديار.. يعودون منسيون فهم من تلك القرى لكن لم تكن هناك رسائل منهم إلى عناوينها.
كانت قرية الإسماعيلية في محافظة المنيا تقف عن بكرة أبيها تنتظرنا.. أنا أحتفظ بالصور على هاتفي وفي عقلي وقلبي، واحتفظ بتلك الدمعات التي رأيتها تتلألأ في مقلتي عينيه وأنا أسأله بعيناي: ما هذا يا دكتور عبد الرحيم؟ تبسم بدهشة ورفع وجهه للسماء.. أدركت أنه يسأل الله في أمر لا يريد أن يطلع أحدا عليه، بضع دقائق ثم عاد لمن حوله للناس.

لم تكن تلك المرة الوحيدة التي ينفصل الرجل فيها عمن حوله ويدخل في حوار  ما مع السماء ثم يعود.. لكن رأيته كثيرا على أبواب الأولياء يخلع من على كتفيه مشاغله وحراسه وهمومه ومن معه ثم يجلس منفردا بجوار المقامات وهو يقول: اتركوني لنفسي قليلا!.

لا أنكر أن الحيرة أصابتني كثيرا وسألت نفسي من هو هذا الرجل؟ أهو رجل صوفي يسلم أمره لله ويسير ببركته أم أنه أحد هؤلاء الذين استثمروا الظروف وتسلقوا السنوات فباتوا أصحاب جاه ومنصب.
كنت في البداية كمن رأى الرجل فقط من زاوية واحدة، فالبعض رآه من مقالاته والبعض رآه من شاشة الصندوق الأسود والبعض رآه من محركات البحث ومن خلف الزجاج، والبعض رآه في طفولته وفي صباه والبعض رآه في أوجه.. وأنا لا أغالي ولا أزكي نفسي إذا قلت أن الله لأمر ما ربما لهذه السطور أو ما سيكون بعدها جعلني آراه في كل مراحله وحياته، أحيانا أشعر أنه يريد أن يستودع من حوله كلماته فينثرها كما ينثر أبيات الشاعر بداخله فتتحول إلى بلابل تبحث عن دوح وربما ترتد وحيدة في صدره حينما لا تجد من يعي شدوها، بخفة روح يوثب من الشاعر الكامن بداخله إلى السياسي القارئ المطلع الذي افترش الأرصفة في شبابه وخالط الشيوعين والماركسيين واليسار بكل اختلافاته، ابن الشيخ الذي ما شغلته العمامة عن قراءة ما تحتها من أفكار فناطح أئمتها كما لو كان عالما، داخل في معارك مع قيادات الدولة لكنه قط لم يجرأ على التفكير في خصام ثرى مصر حتى وإن أصدروا أمرا باعتقاله أو بتضيق الخناق عليه في عمله.

كانت فترات انعزاله منحة قدرية ليزيد اطلاعه، فربما مكث لثلاث سنوات كاملة يقرأ ويقرأ وربما ذاكر لشهور كطالب يدرك أن أمامه اختبار كبير، حتى في زنازين الفكر كان يرفض إملاءات الأشباح فيخرج من داخله الشاب الصعيدي ويقول لهم بتعطيش الجيم: جيت علشان أكون صوت لبلدي.. مش صدى صوت لأي مخلوق كان.

ليس ملاكا لكنه كما نحن نقطع السنوات بغية أن نصل قبل النهاية إلى صيغة الإنسان التي يجب أن نكون عليها قبل أن نصعد إلى السماء، والتي لا تتأت إلا لمن بذل الغالي والنفيس وانعزل وانهزم وانتصر وتحملت روحه الصدام بين القلب والعقل.. بين المفروض والمرفوض.. بين الإجبار والاختيار.. بين الله الذي في الكتب والله الذي في القلب.. بين حديث اللغو وحديث الروح.

قبل أيام هاتفني الدكتور عبد الرحيم علي لأسافر له في مهمة عمل بمعرض إكسبو 2020 أنا والزميلتين  العزيزتين داليا رئيس التحرير التنفيذي، وشاهندة عبد الرحيم نائب رئيس التحرير التنفيذي وزميلنا محمد غنيم، كان جمعا رائعا لم نشعر فيه بفرق بيننا، وكان تعاون مثمر وفرصة لأن نرى جيدا بعضنا البعض فندرك مالم ندركه في دوام العمل تحت وطأة وضغط الظروف أحيانا.
البعض غبطني على الأماكن التي رآه في الصور أو لتلك الرحلة التي لم تخطر على بال أحد ولا على بالي.
لكن أقسم بمن يعلم بما في النفوس ومن يحاسب على النيات ومن ينظر إلى القلوب أن متعتي كانت في الرجل.. في الإنصات إليه وأنا أطلب أن يعيد ما قاله من شعر وأنا أتنقل معه من الحديث عن النبي وعن الإسلام إلى مرحلة الخلفاء إلى حفظة القرآن إلى الحديث عن التراث وعن الأئمة وعن المفهوم الصحيح والقراءة الواعية المتأنية ثم حديثه عن تناحر الأنظمة الاقتصادية في أوروبا، وكأنه ينقلنا من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان لكنه في كل مرة كان يهبط بقلبه وعقله وروحه في مصر وكأنه يرتشف من نيلها ويعبأ روحه من نسيمها يدندن لأم كلثوم ويتذكر الخال وأول موال يتجول سريعا في الأزقة والحارات يصافح خالد محي الدين ورفعت السعيد يضع أوراقه على مكتبه في الأهالي.
يركض مسرعا يقبل يد والدته ويشكرها لأنها ساندته في مغامرته.. يتأمل بقايا حريق سيارته ويبتسم لأن ما قاله عن المخاطرة لم يكن خاطرة بل كان يقينا.

يذهب إلى مدرسة بناته يفتح حقائبهن ويوزع عليهن قلبه بالتساوي، يتأبط كتف خالد اختار له الاسم أحب ألا ينقطع ذكر من أحبهم على مسامعه يودع خالد وينتظره على الشاطئ الآخر.
يكتب مجموعة من الخطابات لسيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيد البدوي وأبا الحسن الشاذلي يعطيها لساعي بريد لا يراه غيره ثم يعد حقائبه قبل أن يلقي السلام وهو يتمتم:

ياغلابة
سيروا في الأرض العريضة
والسعوا النسمة بطواحين الهوا
فيه في قلب الظلم حتة نجمة بيضا

رسالة
استمعت بالرحلة كما ترونها قليلا.. واستمتعت بها كما آراها كثيرا.. فبعضنا يرى الدنيا داخل غرفته إن كان فيها متعة عقله وقلبه.. أدام الله علينا وعليكم الفرح.. والستر.. سأكتب عن الرجل وعن كل من نجح أن يكون إنسانا حتى وإن فرقتنا السبل.