لا يزال الروائي العظيم نجيب محفوظ، يتصدر من وقت لآخر، الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي. إمّا عن طريق لقطات وتعليقات ساخرة، أو نشر مقطع ما من إحدى رواياته، أو تشبيه أحد الشخصيات البارزة في أحد الأحداث الجارية بواحد من شخصيات رواياته.
في السطور القادمة، نستعرض بعض الشخصيات من عالم نجيب محفوظ الروائي، والتي لازالت مؤثرة، وكانت في وقتها "ترند" -بلغة السوشيال ميديا- يتحدث عنهم الجميع، ولا يزالون هكذا حتى الآن.
رؤوف علوان.. مثال الانتهازي
تظّل شخصية الصحفي "رؤوف علوان" في رواية محفوظ "اللص والكلاب"، الصادرة عام 1961 -والتي تحولت بعدها بعام إلى الفيلم الشهير الذي أخرجه كمال الشيخ، وأدى فيه دوره ببراعة الفنان الراحل كمال الشناوي- مثالًا واضحًا ضربه نجيب محفوظ للانتهازية عبر العصور، والمُتاجرة بكل شيء في سبيل الوصول إلى المنصب والثراء.
كان رؤوف علوان رغم بدايته الثورية "محررًا بمجلة النذير، مجلة منزوية في شارع محمد على"، والتي كانت صوتًا مدويًا للحرية، وكان هو بدوره صاحب شعارات زاعقة ومراهقة ملأ بها عقل سعيد مهران، فكان يراه" الحماس الباهر الممثل في صورة طالب ريفي رث الثياب كبير القلب. والقلم الصادق"، إلا أن علوان في حقيقته كان ينتظر الفرصة التي يتحرر فيها من كل قيمه التي طالما أملاها على عقله، ليخرج الأخير من السجن مُعتقدًا أنه سيرى أستاذه ورفيقه الثوري، الذي يُشهر سيفه من أجل حرية، فصُدم بأنه باعها لمن منحوه قصرا ذا حديقة على النيل، مع سيارة فاخرة وخدم كثير.
برع محفوظ وهو ينقل لقارئه تدرج علوان في انحطاطه سريعًا، لينتقل في بضع سنوات من تلك الجريدة شبه معدومة الموارد إلى مركز صحفي مرموق في جريدة كبرى، ويُبرر هذا لسعيد بأنه من عرقه، مُتناسيًا مبدأ المسدس والكتاب الذي علّمه له، وكانا عمادا فكره القديم، والذي شجّع به سعيد على سرقة الأثرياء الذي صار منهم "هل امتدت يدك إلى السرقة حقًا؟ برافو، كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع"؛ فظهرت لدى المجرم حقيقة علوان الذي فاق الجميع في لصوصيته، وهو الذي حوّل السرقة قديمًا إلى فعل بطولي جدير بالاحترام "أليس عدلًا أن ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يُسترد؟"، كذلك لم يكن يُبالي بتصديق أحد لكذبه المفضوح حول العمل الشريف الذي لم يكن سوى انتهازية ووصولية من أجل الوصول إلى قمة المجتمع الذي كان ناقمًا عليه منذ طفولته، والذي ساهم في بؤسه عبّر عنه يومًا بقوله "إني أتعلم بعيدًا عن أهلي وأكابد كل يوم جوعًا وحرمانًا"؛ ما جعله ينتهز الظروف السياسية الجديدة، ويتحول إلى قلم برجوازي مأجور، وتنكر سريعًا لأصوله الكادحة، ولطبقته التي تظاهر في البداية بالدفاع عنها، بينما كانت عيناه طيلة الوقت نصب حياة الارستقراطية.
كان علوان بأخلاقه المنعدمة أول من تنصل من مهران بعد أن انتشرت قضيته، بل وانتهز الفرصة ليرفع اسمه أكثر ويكتسب بطولة زائفة كحام للمجتمع، فصار الصوت الأعلى في التشهير به والتنديد بأفعاله، ليُصبح المجرم الشهير وصديقه القديم أبرز ضحاياه، ويُصبح الواقف أمامه بعد خروجه من السجن شخص آخر غير من تركه في الماضي " هذا هو رؤوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها التراب. أما الآخر فقد مضى.. كحب نبوية أو كولاء عليش"، وبالنسبة إليه فإن الصحفي الذي لم يجد فرصة ليعلو إلا وقد استغلها من أجل طموحه الغير محدود، ليس سوى مثال لمن كان يُشجعه على سرقتهم في الماضي.
سي السيد وأمينة.. أشهر ثنائي في الأدب
من أبرز الشخصيات الأدبية في عالم نجيب محفوظ الروائي، الثنائي الشهر "السيد أحمد عبد الجواد"، وزوجته "أمينة" التي كانت دومًا تُناديه بـ "سي السيد". كلاهما ترك بصمة في حياة المصريين منذ ظهور الثلاثية "قصر الشوق، بين القصرين، السكرية. حيث الزوج الصارم اللعوب في الوقت نفسه. وكانت شخصيته حمالة أوجه، فكان يظهر في بيته بشخصية، وله حياة أخرى بشخصية أخرى مغايرة، ليبقى نموذجًا أصيلًا للرجل الشرقي ورمزا للذكورة والمجتمع الأبوي.
وبعد الكثير من الاتهامات التي لاحقته، نفى نجيب محفوظ أن والده عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا، هو نفسه "سي السيد". وذكر في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، مع الناقد الراحل رجاء النقاش: "وبصراحة كانت شخصية والدي تتحلى بقدر كبير من التسامح والمرونة والديمقراطية، وليس فيها استبداد أو عنف، ولا علاقة لها بشخصية السيد أحمد عبدالجواد بطل الثلاثية". بل استلهم الشخصية من جار شامي الأصل اسمه "عم بشير"، استقر هو وزوجته في مصر، وكان بيته مواجهًا لبيت محفوظ في بيت القاضي. ووصف محفوظ بشير بأنه كان رجلًا طيبًا إلا أنه جبارًا، وكان يعامل زوجته بقسوة، لدرجة أنها كانت تأتي لوالدة نجيب محفوظ "فاطمة" باستمرار تبثها الشكوى من سوء معاملة الزوج.
و استلهم محفوظ جزء آخر من الشخصية من زوج شقيقه "زينب"، وهو صعيد من أصل كردي. يقول محفوظ عنه: "كان فظيعًا، ومع ذلك كانت عندما يفيض بها الكيل تقف في وجهه بشراسة، أما والدي فربما أخذت منه في شخصية أحمد عبدالجواد حبه للفن فقط". أما المنبع الأخير للشخصية فكان الأستاذ "سعيد" عم محفوظ، والذي كان معروفا بكثرة غرامياته وعلاقته النسائية.
الجبلاوي.. أشهر ترندات محفوظ
يُعّد "الجبلاوي" أشهر الشخصيات الروائية العربية على الإطلاق، وأكثر شخصيات محفوظ إثارة للجدل حتى اليوم. لدرجة أن الدراسات في عالم نجيب الأدبي تكاد لا تخلوا من الحديث عنه. فهو تلك الشخصية الإشكالية بالغة الغموض، وبالغة التأثير في قوة حضورها وسطوة غيابها. وكانت "أولاد حارتنا" هي أكثر روايات محفوظ تعرضًا للهجوم والقمع والمصادرة طيلة عقود.
عبر "الجبلاوي" عاد محفوظ مع قارئه إلى النقطة الأولى لدى الإنسان، قصة الخلق والبدء. بهدف فهم معضلة الوجود.. من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فالجبلاوي يمثل الرسوخ والأبدية والصمت المهيب. عدا عما يوحي به من الفضاء الخالي من البشر الذي أقام عليه حارته. فنجد أن الجبلاوي هو الأصل والأبناء هم الفرع، فهو صاحب المشروع والأبناء تجلياته.
وبعد الثورة على روايته الأولى قرر أن يكتب "الحرافيش" في إعادة إنتاج لـ "أولاد حارتنا"، ليقدم الملحمة الوجودية ذاتها على نحو أعمق وأعقد. في علمية تناص معقدة بين شخصيتي "الجبلاوي" و"عاشور الناجي".