استهل الكاردينال كانتالاميسا، واعظ القصر الرسولي، تأمّله حول الروح القدس، بالقول لقد تأملنا في المرّة الماضية في الجزء الأول، حول كوننا أبناء الله.
وقال: "دعونا الآن نتأمل في الجزء الثاني، حول الدور الذي يلعبه الروح القدس في هذا كلِّه. يكتب القديس بولس: "لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله".
وتابع واعظ القصر الرسولي ، حسب ما نشرته الصفحة الرسمية للفاتيكان ، منذ قليل ، يقول تحدثت في المرة السابقة عن أهمية كلمة الله لكي نتذوق حلاوة معرفة أننا أبناء الله ونختبر الله كأب صالح. والآن يخبرنا القديس بولس أن هناك وسيلة أخرى بدونها تبقى كلمة الله وحدها غير كافية وهي: الروح القدس! إنَّ الروح القدس "يشهد" أننا أبناء الله؛ ماذا تعني هذه الكلمات؟ لا يمكن أن يكون نوعًا من الشهادات الخارجية والقانونية كما هو الحال في التبني الطبيعي، أو كما هو الحال بالنسبة لشهادة المعمودية. إذا كان الروح هو "دليل" على أننا أبناء الله، وإذا "شهد" لأرواحنا، فلا يمكن أن يكون ذلك شيئًا يحدث في مكان ما، ولكن ليس لدينا إدراك له وتأكيد عليه. ولكن للأسف هذه هي الطريقة التي قد اعتدنا أن نفكّر بها. نعم، في المعمودية أصبحنا أبناء الله، أعضاء المسيح، ومحبة الله أُفيضت في قلوبنا.
وتابع: "ولكن كل هذا بالإيمان، دون أن يتحرك أي شيء في داخلنا. آمنا بذلك في عقلنا ولكننا لم نعشه في قلوبنا. كيف يمكننا أن نغير هذا الوضع؟ يعطينا بولس الرسول الجواب: الروح القدس! "هذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله".
وأضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول: "لنحاول إذًا أن نفهم كيف يصنع الروح القدس معجزة فتح أعيننا على هذه الحقيقة التي نحملها في داخلنا. طالما يعيش الإنسان في نظام الخطيئة، تحت الشريعة، يظهر الله بالنسبة له سيدًا صارمًا، شخصًا يعارض إرضاء رغباته الأرضية. في هذه الحالة، يراكم الإنسان في أعماق قلبه حقدًا باهتًا ضد الله، فيراه معارضًا لسعادته، لدرجة أنه إذا كان الأمر يعتمد عليه، فسيكون سعيدًا إذا لم يكن الله موجودًا. إذا كان كل هذا يبدو لنا إعادة بناء مبالغ فيها، فلننظر في داخلنا ونلاحظ ما يرتفع من أعماق قلوبنا المظلمة أمام إرادة الله، أو أمام الطاعة التي تقلب مخططاتنا. وبالتالي ليس من الصعب أن نتنبّه بلا وعي أن إرادة الله مرتبطة بكل ما هو غير سار ومؤلم وكل ما يشكل اختبارًا، والحاجة إلى التخلي، والتضحية، باختصار، بكل ما يمكننا أن نعتبره مشوِّهًا لحريّتنا ونموِّنا الفردي. إذا تمكنا في تلك اللحظة من أن ننظر إلى روحنا كما في المرآة، فسنرى أنفسنا كأشخاص يُحنون رؤوسهم في استسلام، يتمتمون رغمًا عنهم: "إن لم يكن هناك حلاً آخر، لتكُن مشيئتك إذًا".
وتابع يقول: لنرى ما يفعله الروح القدس ليشفينا من هذا الخداع الرهيب الذي ورثناه من آدم. بمجيئه إلينا يبدأ في أن يُظهر لنا وجهًا مختلف لله، الوجه الذي كشفه لنا يسوع في الإنجيل. ويجعلنا نكتشفه كحليف لفرحنا، باعتباره الشخص الذي "الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا". وشيئًا فشيئًا تتفتح المشاعر البنويّة التي تترجم تلقائيًا إلى صرخة: أبا، أيها الآب وعلى مثال أيوب في نهاية قصته، نصرخ: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني". حلَّ الابن محل العبد والحب حل محل الخوف!
تابع واعظ القصر الرسولي يقول إن المكان المميز الذي يصنع فيه الروح القدس على الدوام معجزة جعلنا نشعر بأننا أبناء الله هو الصلاة. إنَّ الروح القدس لا يعطي شريعة صلاة، بل نعمة صلاة. وهذا هو "الخبر السار" بالنسبة للصلاة المسيحية! إنَّ صرخة المؤمن: "أبا!" تظهر وحدها أن من يصلي فينا ومن خلال الروح القدس هو يسوع، ابن الله الوحيد. لذلك فإن الروح القدس هو الذي يبعثُ في القلب شعور البنوة الإلهية، الذي يجعلنا نشعر (ولا أن نعرف فقط!) أننا أبناء الله. أحيانًا تحدث هذه العملية الأساسية للروح القدس بشكل مفاجئ ومكثف في حياة شخص ما، وعندها يمكنه أن يتأمّل في كمال روعتها. ولكن في أحيان أخرى، يكون ظهور الآب هذا مصحوبًا بشعور جلال الله وسموِّه لدرجة أن الروح تصمت وتسكن. ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا كان بعض القديسين يبدؤون بتلاوة "صلاة الأبانا" ويبقون ساعات طويلة عند هذه الكلمات الأولى فقط. إنَّ هذه الطريقة الحية لمعرفة الآب لا تدوم طويلاً في العادة، حتى عند القديسين. إذ سرعان ما يعود الوقت الذي يقول فيه المؤمن "أبا"، دون أن يشعر بشيء، ويستمر في تكراره فقط لأجل كلمة يسوع. ولكن لقد حان الوقت لكي نتذكر أنه بقدر ما لم تعد تلك الصرخة تفرح من يرفعها، كلما زاد سعادة الآب الذي يسمعها، لأنها تكون صرخة إيمان صرف واستسلام واثق.
أضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول عندما نتحدث عن صرخة: "أبا، أيها الآب!"، فإننا عادة ما نفكر فقط فيما تعنيه هذه الكلمة للذين يقولونها، ولما يتعلّق بنا. ولكننا نادرًا ما نفكر في معناها بالنسبة إلى الله الذي يسمعها وما تولِّد فيه. لكن من هو أب يعرف شعور أن تتم مناداته "أبا" بنبرة صوت ابنه أو ابنته. لقد عرف يسوع هذا ولذلك دعا الله غالبًا "أبا!" وعلمنا أن نفعل الشيء نفسه. نحن نفرح الله فرحًا بسيطًا وفريدًا عندما ندعوه "أبا": إنها فرحة الأبوة. وهذا كلّه يمكننا القيام به حتى عندما لا "نشعر" بأي شيء. لأنّه في الوقت الذي يبدو فيه بوضوح البعد عن الله والجفاف نكتشف أهمية الروح القدس لحياتنا في الصلاة. لأنّه يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ويَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف. وهو الَّذي يَختَبِرُ القُلوب ويَعلَمُ ما هو نُزوعُ الرُّوح ويَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله. وبالتالي يصبح الروح قوة صلاتنا "الضعيفة"، نور صلاتنا الخامدة، وروح صلاتنا.
تابع واعظ القصر الرسولي يقول علينا أن نبني كل شيء على الروح القدس. لا يكفي أن نتلو صلاة الأبانا وصلاة السلام عليكِ، في بداية اجتماعاتنا الرعوية، لننتقل بعدها سريعًا إلى جدول الأعمال. عندما تسمح الظروف، علينا أن ندعو الروح القدس ونعطيه الوقت لكي يُظهر نفسه ونتناغم معه. بدون هذه المقدمات، تبقى القرارات والمستندات كلمات تضاف إلى الكلمات. ويحدث كما في ذبيحة إيليا على الكرمل. جمع ايليا الحطب وصبّ عليه الماء سبع مرات. وفعل كل ما في وسعه. ثم صلى الى الرب لكي يُنزل نارًا من السماء وتأكل الذبيحة. لكن بدون تلك النار التي نزلت من السماء لكان كل ما سيبقى حطبًا رطبًا. لا يمكننا أن نتوقع إجابات فورية ومذهلة. إن رقصتنا ليست رقصة النار، مثل رقصة كهنة البعل في الكرمل لأنَّ الله يعرف الأزمنة والأساليب. لنتذكر في هذا السياق كلمة المسيح لرسله: "لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه. ولكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض". وهذه الحاجة تصبح ضرورية بشكل خاص في اللحظة التي تنطلق فيها الكنيسة في المغامرة السينودسيّة.
وأضاف الكاردينال كانتالاميسا يقول لدينا مثال رائع على هذا كلِّه في الأزمة الأولى التي واجهتها الكنيسة في رسالتها لإعلان الإنجيل. قُبض على بطرس ويوحنا وسُجنا لأنهما أعلنا قيامة الأموات في يسوع. وبعدها أطلق المجلس سراحهما ونَهَوْهما نَهْيًا قاطِعًا أَن يَذكُرا اسمَ يَسوعَ أَو يُعَلِّما بِه. لقد وجد الرسولان نفسيهما أمام موقف سوف يتكرر عدة مرات على مدار التاريخ: أن يصمتا، ولا يحققا وصيّة يسوع، أو أن يتكلّما ويخاطرا بأن تتدخل السلطة بشكل وحشي وتضع حدًّا لكلِّ شيء. وماذا فعل الرسل؟ رجعا إلى الجماعة التي كانت تصلّي، وأعلن أحد أفرادها آية المزمور: "مُلوكُ الأَرضِ قاموا، وعلى الرَّبِّ ومَسيحِه تَحالَفَ الرُّؤَساءُ جَميعًا". وآخر طبَّقه على ما حدث في التحالف بين هِيرودُس وبُنْطيوس بيلاطُس ضدّ يسوع. ونقرأ: "وبَعدَ أَن صَلَّوا زُلزِلَ المَكانُ الَّذي اجتَمَعوا فيه. وامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فأَخَذوا يُعلِنونَ كلِمَةَ اللهِ بِجُرأة". ويُظهر بولس أن هذه الممارسة لم تبقَ منعزلة في الكنيسة ويكتب في رسالته إلى أهل كورنتس: "إِذا اجتَمَعتُم، قد يَأتي كُلٌّ مِنكُم بِمَزمورٍ أَو تَعليمٍ أَو وَحْيٍ أَو كَلامٍ بِلُغات أَو تَرجَمة، فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيءٍ: مِن أَجْلِ البُنْيان".
وخلُص واعظ القصر الرسولي الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثاني في زمن المجيء بالقول لذلك سيكون الخيار المثالي لأي قرار سينودسي هو القدرة على إعلانه - على الأقل بشكل مثالي - للكنيسة بكلمات مجمعها الأول. "لقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا...". إنَّ الروح القدس هو الوحيد الذي يفتح دروبًا جديدة دون أن ينكر الطرق القديمة. فهو لا يصنع أشياء جديدة، بل يجدّد الأشياء! أي أنه لا يخلق عقائد جديدة ومؤسسات جديدة، ولكنه يجدد ويحيي تلك التي أسسها يسوع، وبدونه سنكون على الدوام متخلفين في التاريخ.