لا يزال حديثا موصول حول مدارسة سير هؤلاء الأخيار الأعلام الذين ملأت سيرتهم العطرة الدنيا وملأت علومهم القلوب قبل العقول.
نذكر بهم لعلنا نخرج من كبواتنا وعثراتنا المتكررة، إذ لا سبيل إلي الخروج إلا بالعود الأحمد، إلي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومطالعة وقراءة مؤلفات هؤلاء الأولياء التي تشع منها النفحات النورانية الربانية لعلها تكون لنا هادية وتنير قلوبنا، وتسمو بها أرواحنا وتهدأ من خلالها نفوسنا وتطمئن بها عقولنا.
الحارث المحاسبي.
هو:الحارث بن أسد بن عبدالله العنزي المحاسبي، المنكي بأبي عبدالله.
سمي بالمحاسبي، لأنه دوما ما كان يحاسب نفسه عملا بحديث النبي صلي الله عليه وسلم، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.
والمحاسبي إمام من أئمة الزهد والتقوي والورع، ومن أكابر متصوفة القرن الثالت الهجري، وأحد العلماء المشهورين.
حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، كتب وألف في الحديث والفقه، وعرف مذاهب النساك وآثارهم وأخبارهم، تعلم علي يديه كثير من أهل بغداد الذين صاروا علماء بعد ذلك.
عرف علم الكلام وألف فيه، وبرع في التصوف، وعلم الحديث والفقه، بل وزاد من اهتمامه بعلوم أصول الدين.
كتبت عنه العديد من المؤلفات والرسائل العلمية في الجامعات المصرية والعربية.
من مؤلفاته المشهورة، آداب النفوس وفي هذا المؤلف تحدث عن النفس الإنسانية وآفاتها وكيفية تربيتها وتهذيبها، وبدء من أناب إلى الله، وأيضا رسالة المسترشدين، فهم القرآن ومعانيه، التوبة، شرح المعرفة وبذل النصيحة، مائية العقل وحقيقة معناه، وهو يشرح في هذا الكتاب تعريف مفهوم العقل، وهو يتشابه إلي حد قريب مع رسالة الفارابي في معاني العقل، إذن الرجل علي دراية بالفلسفة.
له مؤلف آخر غاية في الأهمية هو المسائل في أعمال القلوب والجوارح، ومن مؤلفاته الفلسفية، البعث والنشور، وهو علي منهج أهل السنة فالبعث عنده روح وجسد والجزاء ثوابا وعقابا عليهما معا، مخالفا بذلك عقيدة بعض الفلاسفة.
له مؤلف آخر وضح فيه حقيقة الزهد ووسطية الإسلام في هذه المسألة، هذا الكتاب هو، المسائل في الزهد.
ولد المحاسبي في مدينة البصرة عام 170ه، في عهد الخلافة العباسية، وعاش في عصر يزخر بكل صنوف العلوم والفنون فمد يده واغترف، فجاد عليه الجواد الكريم وفتح عليه فتوح العارفين ووجد ضآلته المنشودة في علوم الدين والزهد والتصوف، عاصر من الفقهاء الإمام أحمد بن حنبل، ثم قدم بغداد للاستزادة.
تتلمذ علي يديه أكابر الفقهاء والمتصوفة، مولانا الشيخ أحمد الفرائضي، والجنيد البغدادي، أحمد بن الحسن الصوفي، إسماعيل بن إسحاق السراج.
قال فيه أبو عبدالله بن خفيف، اقتدوا بخمسة من شيوخنا هم الحارث المحاسبي، الجنيد،ابو محمد رويم، أبو العباس بن عطاء،عمرو المكي.
توفي في مدينة بغداد عام 243ه..
تصوفه:الحارث المحاسبي ربط الاخلاق بالتصوف ولم لا وكلهما يسعيان لهدف واحد ألا وهو تحقيق السعادة للإنسان في الدارين، فبالخلق القويم يحيا الإنسان حياة طيبة ومن ثم يرتقي منها إلي حياة أفضل فتتحقق له السعادة السرمدية التي تضعه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فالكلام في الأخلاق ومعانيها، كالمجاهدة والتوبة، والصبر والرضا والتوكل والتوبة والخوف والرجاء والمحبة والذكر، والنفس وعللها والسلوك وآدابه ومراحله حظ مشترك بين صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين.
ذكر المستشرق ماسينيون المحاسبي بأنه محلل نفسي تبحر في النفس الإنسانية وبيان صفاتها وخصائصها، ما لم يستطع كبار المحللين النفسانين العالميين أن يصلوا إليه، وهذه شهادة من مستشرق مهتم بالتصوف وأهله.
يقول المحاسبي من الممكن أن نربط بين الفعل والنية.
قسم الناس إلي أربعة رجل، أعيروني قلوبكم وعقولكم أيدكم الله بمدد من عنده وانار بصائركم.
يقول إنما الناس أربعة رجل، أولهم: رجل لا تعرفه وتعرفه ولا تصاحبه، هذا الصنف من الرجل أنت قد لاتكون تعرف خصاله وطباعه وسجاياه، ثم تلتقيه وتتعرف عليه عن قرب فلا يروق لك ولا تشعر معه براحة القرب والود والوداد، ولا يطمئن له قلبك فلا تصاحبه، وهذا ما يحدث الآن في واقعنا المعاصر.
الثاني: ورجل صاحب بدعة، مبتدع وكل صاحب بدعة فهي عليه رد، مثلما قال النبي صلي الله عليه وسلم، ومبتدعة العصر كثر ولكل عصر مبتدعوه، والبدعة إحداث أمر في الدين لم يخبر عنه الله سبحانه وتعالي، ولم يحدثنا عنه النبي بحديث صحيح موثوق في ثبوتيته.
الثالث: ورجل فاسق، متقلب الأحوال، لا يثبت علي حال، يجاهر بالمعاصي ويقوم بأعمال تتنافي مع الآداب الدينية ويثير الفساد في الأرض بفسقه.
الرابع: ورجل عندك مستور وأنت له مصاحب، وهؤلاء هم رجال الله،الذين لا يتحدثون كثيرا وإنما مستورين أعمالهم هي التي تخبر عنهم، تقضي حوائجهم قبل أن ترفع حواجبهم إلى السماء.
قد تجتمع قلوبكم بهم دون أن تلتقي أجسادكم.
أبدأ تحن إليكم الأرواح*ووصالكم ريحانها والراح.
يقول الأسد المحاسبي، إنما يؤتي من الصاحب الذي هو شكلك ومثلك وأنيسك فيستريح قلبك..
منهجه في التصوف:منهجه منطقي تحليلي، يقول عن المحاسبة، المحاسبة والموازنة في أربعة مواطن أولها: فيما بين الكفر والإيمان، أختر لنفسك في أيهما تسير، أختر فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر وتحمل تبعة اختياراتك.
ثانيهما: في ما بين الصدق والكذب، أيهما أفضل لك تكتب عند الله صديقا أم تلقاه وجهك مسود بكذبك.
ثالثهما:في ما بين الشرك والتوحيد، هل تحب أن تكون من أهل التوحيد وتمت موحدا بالله، أم تلقاه مشركا، فليس بعد الشرك ذنب (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا) ولحديثه سبحانه وتعالي يا عبدي لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لاتشرك بي شيئا أدخلتك جنتي ولا أبالي.
(يا بني لاتشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم).
رابعهما: في ما بين الإخلاص والرياء، فلنجعل أعمالنا كلها خالصة لله تعالي لانبتغي بها أحد اللهم إلا وجهه الكريم.
رحم الله المحاسبي خير من حاسب نفسه وعرف قدرها.
آراء حرة
الحارث المحاسبي أبو عبدالله الفقيه المتصوف "170-243 ه"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق