ما من شك أن المفارقة جزءٌ أصيل في حياتنا وبدونها لا يمكننا أن نتصور قيمة للحياة بتفاعلاتها وأحداثها المتراكمة. فلولا المفارقات ما اتخذنا مواقفنا تجاه الآخرين ولا اتخذوها تجاهنا، ولولا المفارقات ما انطلقت أحكامنا ولا قراراتنا الفورية أو المرجئة كردة فعل على موقف أو حدث لم تعجبنا تفاصيله. أما عن عناصر الرواية فقد تجلت في الزمان من بدايات القرن العشرين حتى عام 1956 المكان في نجع السعداوية في صعيد مصر بين أسيوط وجرجا. أما الشخوص: فهم السعداوية (السيد وحسن وحسانين وزين) واللورد هاريس الإنجليزي، وماري أدونيزي زوجته، وكارمن ابنتهما، ولابان الفرنسي معشوق ماري، وأنور صديق معشوق كارمن، وكارمن وحسانين بعد ذلك. العقدة: تكمن في ذلك الاشتباك بين شخوص الرواية، وتلك العلائق المتواشجة بفعل الثنائيات. وفيما يتعلق بالحبكة، فقد أطلت علينا بعنقها بطريقة أفقية قبل انتهاء الرواية ببضع صفحات حتى لحظة التنوير. وقد كانت لحظة التنوير كاشفة كشفا خافتا في بعض المواقف، ولكنها كانت جلية في كشف علاقة الطشطوشي (عبد النبي المطرود ولابان الفرنسي) (ولحظة التنوير في علاقة هاريس بابنته كارمن) ووصولا إلى النهاية فهي من النهايات المفتوحة التي تحتمل إضافة من القاريء المثقف كما قال ميخائيل ريفاتير في حديثه عن أنماط القُرَّاء.
إن هذه الرواية من الروايات التي أحكم مؤلفها قبضته على فنيات السرد الروائي في قفص فولاذي لا تتحرك أركانه. فكل عنصر من العناصر السابقة وجدناه متواشجا بغيره من العناصر المذكورة آنفا بشيء من الخوف والتوتر، وكأن العناصر تخشى الإفصاح عن حقيقة الغموض الذي لازم بعض التفاصيل والأحداث، فكان كل عنصر يهرب هروب اللامسئول عن الكشف النهائي؛ حتى وصلنا إلى تلك النهاية التي يقول فيها كاتبنا على لسان فاطمة بنت مغاوري الخادم وهي تناجي مقام الشيخ الطشطوشي لكي يرد إليها زين ابن العمدة الذي حملت منها سفاحا:
"كده بردك يا سيدنا... ما كانشي العشم يا سيدنا... تفوتني وتمشي قبل ما أجيلك" هذه العبارة كشفت إلى أي حد يمكن للإنسان أن يعوِّل في حياته على الخرافات من دون إعمال العقل الأخذ بالأسباب.
إن تلك النهاية فتحت آفاقا رحبة في الكشف عن عدد من مفارقات الحكي التي تجلت في الرواية من البداية إلى النهاية وكذلك وضوح الرفض بكل أشكاله. ومن بين تلك المفارقات: المفارقة الزمنية بين الارتداد والاستشراف. وقد بدت المفارقة الزمنية في أن كاتبنا اعتمد في حكيه على السرد التاريخي في الماضي عبر تقنية (الفلاش باك) أو الارتداد الزمني الحكائي، وذلك باستدعاء ولاية العمدة حسن السعداوي لنجع السعداوية رغم ضعفه وقلة حيلته ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان العمدة نفسه يستشرف المستقبل بأن عبد الناصر والضباط الأحرار سوف يُحاكمون جراء فعلتهم قائلا:" جمال عبد الناصر يقف ذليلا في قفص المحاكمة وإلى جانبه عبد الحكيم عامر يرتعدان أمام السفير البريطاني الغاضب... ولا يتوقفان عن طلب العفو والسماح منه... ثم عرج خياله المنتشي يصور له مشاهد كاملة من مراسم الاحتفال بعودة الملك من منفاه"ولعل تلك المفارقة أحدثت خيالا خصبا أخرجتنا من قبضة السرد الحكائي الدائري. فكان الاستشراف القائم على المفارقة بمثابة طبقة إبداعية جديدة.
وهناك المفارقة الاجتماعية الطبقية بين لقبي العمدة والمعلم عبر موقفين، الأول عندما ذهب زين لمقابلة عمه حسانين بالقاهرة فكان ينتظره عند أحد المقاهي:"صبي القهوه يقول: عندك شاي وشيشة للعمدة. في المعتاد ينشرح زين عند تلقيبه بالعمدة، يستعيد معه سيرة أجداده القديمة. لكن اللقب من صبي القهوة لم يحبذه بل أزعجه فقد سمعه يمنح اللقب لثلاثة من العمال والأرزاقية القاعدين حوله" زمن ثم فهو لقب عام وليس خاصا. أما الموقف الثاني " طال انتظار زين لعمه فسأل الصبي: هو العمدة حسانين ع ياجي الساعة كام؟ سأله الصبي باستغراب: مين العمدة حسانين يا بلدينا؟! حتى وصلا بالحوار بأن قال الصبي لزين: قصدك المعلم حسانين صاحب الوكالة ... زمانه جاي أصل مشواره بعيد... وهنا فهم زين أن لقب المعلم هنا أفضل من لقب العمدة. وكشفت لنا الرواية عن مفارقة الثنائيات بين زين فاطمة ابنة مغاوري الخادم في دوار العمدة، وكذلك ثنائية ماري أودنيزي ولابان معشوقها الفرنسي وعلم زوجها هاريس بتلك العلاقة الآثمة. لكن ما يمكننا التركيز عليه هنا هو أن هاريس الإنجليزي بمثابة مرآة عاكسة لقصة مغاوري الخادم في نجع السعداوية. فهاريس كانت أمه خادمة في القصر الإنجليزي، وكان(ماري ولابان) قد اشتهرا بقصة غرام طويلة، وفي هذا الموقف جِيءَ بهاريس ابن الخادمة لكي يفك طلاسم علاقة ماري بلابان بأن يتزوجها هاريس مدارةً للفضحية الملكية، مقابل الذهاب إلى المستعمرة المصرية مع الخدم والحشم والألقاب والحصانة، وموافقة هاريس على العرض. في المقابل كانت علاقة فاطة بزين- ابن العمدة- التي تمخض عنها أن حملت فاطمة ووعدها زين بالزواج لكنه أراد الهروب منها إلى القاهرة لأنها ابنة خادمهم.
وهناك ثنائية ثالثة كانت بين كارمن وأنور صديق أحد الضباط المصريين. وقد هامت بعشقة، لكن أمه لم توافق على زواجه منها لأنها بريطانية، والبريطانيون هم سبب هلاك البلاد. فكار من ابنة (هاريس وماري) أو ابنة (ماري ولابان) فقد عاشرها في نفس الأيام؛ حتى إن ماري نفسها لا تعرف من الأب الحقيقي. ومن بين المفارقات مفارقة الهزيمة والانتصار التي تمظهرت بتناقض غريب. ففي الوقت الذي تم فيه إعفاء اللورد كرومر من منصبه في مصر إثر حادثة دنشواي وإعدام عدد من الفلاحين المصريين لاتهامهم- كما قال الإنجليز- بقتل عدد من جنود الإنجليز رغم أنها ضربة الشمس التي أسقطت أحد الجنود صريعا، رغم ذلك فقد تم تكريمه- كرومر- بعد عودته إلى لندن ومنحه مبلغ يناهز الخمسين ألف جنيه إسترليني نظير خدماته الجليلة للملكة البريطانية العظمي في مصر. ولعلي أرى أن هذه إشارة قوية حقيقية إذ إن كثيرا من الروؤساء الأوربيين بعد شنهم حروبا على دول نامية وخاصة شرق أوسطية لا تتم بمعاقبتهم بل يكرمون في مجالسهم الاستشارية أو البرلمانية حتى وإن ثبت بعد ذلك فداحة قرارتهم وما تمخض عنها من قتل أبرياء بالألوف. وهناك المفارقة الأخلاقية فعادة السرقة كانت متأصلة في هاريس منذ صغره، ورغم ضخامة راتبه فإن جيبه لم يشبع، فكان يسطو على أموال الوزارة السائبة في مصر. وتجلت المفارقة الأخلاقية في موقف السيد العمدة الذي كان يوفر المؤنة وشكائر الغلة وأجولة التبن والقمح والشعير التي كانت تقلها الحمير والبغال والماشية إلى الكامب الإنجليزي أملا في رضا هاريس على على العمدة . وفي الوقت ذاته هناك أحد الفلاحين الذين أرادوا أن يسدوا رمقهم بلقمة خبز فأتيحت له الفرصة فسرق هبرة لحمة من أكل الإنجليز فتم تعليقه وجلده والرجل ينتحب ويستغيث:آخر مرة النوبة دي يا عمدة.. كنت جعان يا عمدة.
مفارقة التسامح الديني، نجدها في موقف جليٍّ عندما أثار الشيخ أبو الجود (ألد أعداء العمدة) حفيظة أهل النجع بأن السيد العمدة كافر نظرا لمخالفته خليفة المسلمين وانتمائه إلى الإنجليز الغاصبين. خاصة فيما ذكره الشيخ بأن السيد العمدة سوف يحول المسجد إلى كنيسة . وفي تلك الأثناء خشية الوقوع في مغبة صدام مع الأهالي، فما كان من العمدة إلا أن أراد أن يزيد مساحة الجامع ويوسعه لينفي عن نفسه شبهة الشك في عقيدته؛ فماذا فعل؟ أخذ قيراطين من قراريط مملكوة لأسرة من نصارى النجع ولما اعترض رب الأسرة لأن الأرض مصدر رزق لأولاده رفض توسلاته ونهره، وأخذها غصبا بالقوة وبدون مال. وقرر إضافة القيراطين لتوسيع المسجد.
أما عن بنية الرفض فقد نمت بذور بنية الرفض منذ البداية حينما رفض أهل نجع السعداوية العمدة حسن لضعفه، وكانت دائما تحدث المقارنة بينه وبين السيد السعداوي الذي سلم مطاريد الجبل للحكومة بمساعدة عبد النبي(هو الطشطوشي) و(حِكمت الغزية) وزوجها البورمجي، ثم تبلورت تلك البنية في رفض زين زواجه من فاطمة بنت مغاوري الخادم، وقد ترعرعت تلك البنية الرافضة في كلام ماري أدونيزي في حديثها عن الكنيسة ونظامها حين كلمت أمها بجرأة عن رجعية الكنيسة وتمسكها بمعتقدات بالية تدعي أنها مقدسة، وما زاد الطين بِلَّة أن قالت لأمها عن علاقتها بلابان: إن الزنا المحرم حبٌّ وعشق، بل تتفاخر بحمل غير شرعي وتنوي إتمامه"
ومن مظاهر الرفض موافقة والد ماري أن يُزوج ابنته لهاريس ابن خادمة القصر. وعلى مرارة الاقتراح من زوجة اللورد فقد كان له وجاهته" وبناء عليه فإن كلمة المراراة هنا بمثابة الرفض بعينه نظرا لاختلاف المستوى الطبقي والسياسي والثقافي . وقد تجلت كذلك بنية الرفض في موقف ماري من زوجها هاريس حين أراد معاشرتها، قائلة "لا تلمسني يا قذر .. أحبُّ لابان وحملتُ منه وأنت أول العارفين. أكرهك مثل سيدك اللورد الذي اشترى دياثتك بوظيفة أيها الرخيص"
ومن علامات بنية الرفض التي بزغت في الرواية ما رأيناه من موقف حسانين من العودة إلى نجع السعداوية ليكون العمدة بدلا من أخيه حسن، ورغم محاولات زين المضنية مع عمه، فإن الأخير رفض رفضا قاطعا العودة بعد أن كوَّن جاها وسلطانا وصار معلما في روض الفرج وله اسمه وسمعته، وذلك الرفض صار ينسحب تدرييجا على زين نفسه في موقفه من العودة إلى فاطمة.
ومن أقوى مظاهر الرفض التي تشكلت بنيتها في السياق العام للحكي والسرد الروائي ذلك الموقف الذي عبر فيه أحد الرجال الذين يستعدون للترحيل بأن قال بلهجته الصعيدية: النفر منينا هنا ميت بالجوع وفي الترحيلة ميت بالنار.. روح للعمدة وقله ما رايحينش يا بووي ياكش يقتلنا كلنا ويريحنا"
وفي النهاية فإن الرواية من الروايات المحكمة السرد المتباينة الأسلوب المتزنة حكائيا، فقد أضفت الرواية بأسلوبها الرشيق طبقة إبداعية تجلت ملامحها في تلك الفترة الزمنية الأفقية الممتدة لنصف قرن من الزمان وما شابها من أحداث كثيرة أثرت على وفي المجتمع المصري بطبقاته كافة. ولم يكن نجع السعداوية إلا رمزا من رموز التحولات السياسية في المنطقة التي ارتكنت وارتكزت على مصر؛ فكان نجع السعداوية هو العقل الذي يفكر به الإنجليز في مصالحهم فقط وقت الاحتلال دون النظر إلى غيرها من العقول والأفكار أو الآراء. كما لا يمكنني أن أغفل قيمة الوصف الرصين الدقيق في تضفير السرد لنرى أمامنا الثقافة الصعيدية بمفرداتها المختلفة وكأننا أمام مشهد حقيقي متحرك لم يسقط منه سوى أبطاله، ولا يلبث سقوط الأبطال إلا ويعود آخرون جدد بهيئاتهم وهيبتهم وثقافتهم الضاربة بجذورها في أعماق مصر.
الدكتور / نور عابدين -أستاذ النقد الأدبي والبلاغة المساعد بكلية الآداب- جامعة الإسكندرية