وهبَنا الله نعمة العقل لنفكر ونتدبر ونضيء الكون بكل ما يسعد حياة البشر، ويسهم في تقدمهم على المستويات الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية وغيرها من المستويات.
ولا يعقل إطلاقًا أن يُعاقب كلُّ من يستخدم عقله ويفكر [القرآن الكريم يحضنا على التفكير وذكره في ثمانية عشر موضعًا، كما جرى ذكر التفكير في الإنجيل نحو ثلاث وعشرين مرة].
التفكير، إذن، فريضة دينية واجبة، وهو في الأصل طبيعة بشرية تواجدت منذ تواجد البشر على وجه الأرض.. ولولا تفكير ذوى العقول النابهة ما تقدمت البشرية قيد أنملة، وما نهضت الشعوب أبدًا، وما تقدمت الدول خطوات للأمام.
منذ أكثر من ثلاثة قرون، قال الفيلسوف الفرنسى الشهير رينيه ديكارت: «إننى أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخير لدرجة لا حدود لها»، وأطلق عبارته الخالدة: «أنا أفكر.. إذن أنا موجود»، فما قيمة الإنسان فعلًا ما لم يستخدم عقله الذى وهبه له الله؟ لقد أصاب ديكارت كبد الحقيقة ولم يخالف العقل أو المنطق، ولهذا صارت كلماته خالدة خلود الزمان.
ما الذى جرى لنا؟ لماذا يرتد بنا زماننا، أزمنة إلى الوراء؟ وأين العيب أصلًا؟ فينا؟ أو في تعليمنا القائم على الحفظ والتلقين ولا يحض على التفكير والاختلاف؟ أو في تأثر بلادنا أرض السماحة والكرم بذلك الوافد من دول أخرى عبر سفر العديد من المصريين للعمل ثم عبر ثورة الاتصالات بحلوها ومرها التى جعلت العالم كله قرية صغيرة تتأثر وتؤثر فيما يحيط بها، أو حتى يبعد عنها، فالفضاء متسع والنت يهب على الجميع.
ماذا جرى لتجرى محاكمة شيخ طاعن في السن، أو حتى شاب يافع، لأنه استخدم عقله واجتهد وقدم عصارة فكره، لينبهنا إلى مكمن الخطر ويهدينا الطريق القويم؟
الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى ما انفكت تتواصل من قادة الأمة والفكر عن حقٍ من أجل حماية شبابنا وعودة روح الألفة والمحبة بين أبناء الوطن الواحد، ولتتفتح أمامنا جميعًا صورًا شتى من جمال تاريخنا الذى تشوه، وحاضرنا الذى يقاسي الأمرَّيْن، ومستقبلنا الذى نتوق إلى صنعه بعقولٍ واعية مدركة لحقيقة الأشياء، قادرة على التصدى لكل ما يعوق انطلاقنا نحو القمة.
ليس صدفةً أن يلح الرئيس عبدالفتاح السيسي، أكثر من مرة، على ضرورة تجديد الخطاب الدينى.. إنها دعوة تحتاج بالفعل إلى أن تصبح واحدًا من المشروعات القومية في مصرنا.. مصر لن تنهض سوى عبر الاهتمام بالبشر والارتقاء بثقافتهم وتفكيرهم.
تجديد الخطاب الدينى، أو للدقة الفكر الدينى، مشروع قومى أساسى يحتاج أن تلتف حوله الأمة، وتتبناه الدولة بخطط واضحة وواعية ومدركة في كل مناحي الحياة التعليمية والثقافية والاجتماعية والدينية، وفق برامج علمية يعكف عليها المؤمنون حقًا بهذا المشروع القومى، الذى يتطلب الحشد له من الاتجاهات الفكرية كافةً، ومن دون قيود يضعها بعض الذين اعتادوا «وقف المراكب السايرة».
بعد صدور الحكم على المفكر أحمد عبده ماهر، نحن أمة في خطر.. لا نقول هذا من فراغ أو مجرد كلام «طق حنك» فهذه هى نصوص الدستور لمن يريد أن يعلم:
الفقرة الأولى من المادة ٦٤ من الدستور تنص على أن: (حرية الاعتقاد مطلقة).
المادة ٦٥ من الدستور تنص على أن: (حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر).
المادة ٦٧ من الدستور تنص على أن:
(حرية الإبداع الفنى و[الأدبى] مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك.
ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية و[الأدبية] و[الفكرية] أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو [الفكرى]، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها.
وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة).
هكذا قال الدستور في نصوصه التى تحمى حرية التفكير.. والدساتير تصدر لتكون واجبة النفاذ ويكون الالتزام بها فرضَ عينٍ على الجميع، ولا تصدر لكى نرميها فوق الأرفف فيعلوها التراب وتضيع معالمها.
بدلًا من الحكم على أحمد عبده ماهر، حاكموا الذين أهدروا الدستور وأهانوا نصوصه في هذه الدعوى الجائرة.. لماذا لا ينتفض مجلس النواب لتعديل قانون العقوبات، وإلغاء كل ما يخالف الدستور، وكل ما يعود بنا للوراء، ويزدرى الإنسان، ويهدد كل من يحاول التفكير أو التجديد أو السعى لنهضة بلادنا التى نتمنى لها جميعًا أن تتقدم الصفوف بين دول العالم كله؟.. لماذا أيها السادة؟ّ!
آراء حرة
التفكير.. فريضة واجبة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق