تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
عندما نخرج من ضغط اللحظة وارتباكاتها سنكتشف أننا كنا نكتب سطورًا مجيدة في تاريخنا، ستذكرها أجيالنا القادمة بفخر، فقد أكدنا أن الشعب المصري ما زال حيًّا يمتلك زمام أموره رغم كل ما عاشه من نكبات استهدفت أن تكسر ارادته، وتكبل حركته، وتشغله عن اللحاق بركب التطور والتنمية والحياة الكريمة التي يستحقها، حروب ومؤامرات وحصار اقتصادي وإشاعة الفرقة والتطرف والكراهية والفساد، حتى كاد من يطالع المشهد المصري يتوقع قرب إعلان وفاة هذه الأمة العريقة، فإذا بالشباب الذي يختزن كل جينات العزة والكرامة ينتفض بالمخالفة لكل معطيات العلوم السياسية ودراسات أجهزة الاستخبارات ومخططات القوى العظمى، رغم فعل الإفقار والتجهيل، عندما خرج على دفعتين ليصحح المسار ويضبط بوصلته، مرة حين وجد حقوقه تغتصب ومرة حين أيقن أن وجوده مهدد، ولا يمكث طويلًا في انتظار استرداد الأنفاس، بل يسابق الزمن لينتقل من الثورة إلى الدولة، يجتاز امتحان التأسيس ويرسى قواعد البناء في دستور يخترق حجب الدولة المدنية رغم كل السدود والحواجز والألغام التي زرعت في الذهنية العامة والخلط المسموم بين الدين والسياسة والدين والدولة، وإجهاض قيم الدين في المجتمع من نفس الشخوص، ويخرج من الامتحان متأهبًا لخوض امتحان بناء بيته وترتيبه، بامتحان الرئاسة.
وهو امتحان لو تعلمون عسير، فنحن نواجه ثلاثية من التحديات، تحدى مواجهة تراكمات متعددة منها ما هو نتاج تجارب تفتقر إلى الخبرة والفهم عبر أكثر من نصف قرن صاحبتها مغامرات كارثية افضت إلى تفخيخ الاقتصاد وتراجعت بنا إلى صفوف التخلف والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، ومواجهة فعل ارتباكات سني الثورة وانفجار سياقات الفوضى وتداعياتها، التي تحتاج إلى إرادة صلبة من القيادة وفهم صحيح من القاعدة يقدر معًا على كبح جماح السوقية التي احتلت سطح المشهد مع احتلالها لشوارعنا وأرصفتها وأسواقها وحولت المدينة إلى عشوائيات امتدت إلى الفكر والعلاقات المجتمعية بشكل سرطاني تغول ليهدد أسس المجتمع الراسخة.
التحدي الثاني في مواجهة نظام أسبق استطاع أن يبني منظومة فساد متشعبة طالت مستويات متعددة أفقيًّا ورأسيًّا، بشكل خلق واقعا لم نعد فيه نهتز لسقوط القيم المصرية الأصيلة، ورحنا به وفيه نتعايش مع الفساد بصوره الفجة، ونبرره وربما نطلبه، وأسس لربط المصالح بآليات ملتوية دعمه تراجع التعليم وسطحية الإعلام والانقطاع المعرفي الثقافي، ليملأ الفراغ سيل من السوقية وأنصاف الموهوبين وفاقدي الموهبة.
التحدي الثالث في مواجهة نظام سابق كان يرقب انهيارات الأنظمة السابقة، ويرتب للقفز على مفاصل الوطن وذهنيته وموروثه الحضاري لحساب ماضوية متحالفة مع قوى متربصة بمصر إقليميًّا ودوليًّا، مدغدغًا شارع فقد الأمل في حياة سوية كريمة على الأرض فراح يتلمسها خلف حجب المنظور، وكان هناك من يغذي ترحيل أحلامه إلى ما بعد الحياة الدنيا، فكان أن قفز بمشروعه في غفلة من الوعي المصري، لكنه لم يكن يملك رؤية وطنية فكان يكتب نهايته بتخبطه وتقزيم الوطن ونفى حضارته واختزالها في رؤية ضيقة متريفة متصحرة.
التحدي أن هذه القوى الثلاث يراودها الأمل في العودة مجددًا، ولها على الأرض من يرى أن مصالحة مرتهنة بعودتهم على تناقضاتهم، وثلاثتهم يراهنون على حالة السيولة التي تفرزها المرحلة المعاشة، وضبابية المشهد، والإنهاك الذي أصاب القوى الشبابية، وحرب التشويه التي يخوضها مريدو تلك الأنظمة.
ولهذا علينا أن نتدارس القواعد التي تحدد ملامح الرئيس القادم، نحتاج إلى رئيس يؤمن بأنه منسق بين القوى الوطنية المصرية وليس مصادرًا لاختلافاتها، ومحفزًا لانطلاق طاقاتها لحساب الوطن، وأن يكون مقتنعًا بالحول بمفهوم الرئاسة من الفرد إلى المؤسسة.
والقاعدة الثانية أن يقدم المرشح لهذا الموقع السامي رؤيته بشكل واضح ومحدد على المستوى التكتيكي والمستوى الاستراتيجي، رؤية موقعة على خطط محددة، بعيدًا عن الفضفضة والكلام في المطلق وتسويق الشعارات.
والقاعدة الثالثة أن يعلن بوضوح موقفه من مدنية الدولة ومحدداتها: الحرية العدالة المساواة سيادة القانون، وكيفية تبنى آليات الشفافية والمكاشفة.
ويأتي بالتوازي مع كل هذا تعهده بأن انحيازه الأول لمصر الوطن والتاريخ والجغرافيا والبشر.
ربما لهذا علينا أن نكف عن المقارنات الانطباعية والتي يحكمها تخوفاتنا من عودة الغاربين، أو أحلامنا بالفارس المنقذ الذي يملك عصا موسى وقدرة فرعون، وهذا يتطلب أن تكون المرحلة القادمة ما بين فتح باب الترشح للرئاسة وبين يوم الانتخاب والتصويت مرحلة حوار مفتوح موضوعي حول مواصفات الرئيس الذي تحتاجه المرحلة، فهو بالضرورة رئيس استثنائي لمرحلة انتقالية، وهذا دور النخب والمفكرين والإعلام الذي يجب أن يتخلص وبسرعة عن حسابات الانتماءات الضيقة ويعود إلى القواعد المهنية والتزامه الوطني.. التاريخ يسجل علينا مواقفنا وحكمه قاطع.
الرئاسة امتحان للمواطن وللرئيس.