يوما ما صدر العدد الأول من كتاب القاهرة تحت عنوان «محاكمة طه حسين» مع جريدة القاهرة أثناء رئاسة الكاتب الصحفى والمؤرخ صلاح عيسى، والتى تصدرها وزارة الثقافة المصرية.
تضمن الكتاب تحقيق وقرار النيابة في 30 مارس 1927، الصادر عن المحقق محمد نور، رئيس نيابة مصر، حول التحقيق مع الكاتب طه حسين، بشأن ما نشر في كتابه «في الشعر الجاهلي».
حرصت «القاهرة»، على إدراج مبررات اختيار كتاب «محاكمة طه حسين» الذى أعده وعمل على نشره من قبل الكاتب خيري شلبي، هو تأكيد تراث الاستنارة، ليس فقط باستعادة المعركة التى دارت حول الكتاب المذكور ومؤلفه، وإنما بغرض تأكيد أن هذه الاستنارة كانت جزءا من سياق مجتمعي أفرز إلى جواره وإلى جوار منتقديه من المشايخ والمفكرين، مجموعة من القضاة كانت تمارس عملها القانوني استنادا إلى بحث جاد، وصدر الكتاب في طبعتين من قبل، نظرا لأهمية القضية التي يتناولها وللدلالة الفكرية والقانونية التي تتعلق بنشر كتاب وصلت أفكاره إلى دهاليز المحاكم.
في الكتاب يتوقف (شلبى) أمام قرار المحقق وصياغاته وأفكاره، فيوضح أنه لم يقرأ صياغة قانونية جافة ومملة، بل عبر المحقق عن ثقافته التى بدت جلية وهو يحقق مع طه حسين، ومعبرًا عن وجهة نظر راقية وعلمية.
قرار النيابة: في 30 مارس سنة 1927، قدم محمد نور، المحقق، تقريره التاريخي، حيث أنهاه بقوله وقراره التالي: «وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل،إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك: تحفظ الأوراق إداريًا...».
بدأت بوادر عاصفة كتاب «في الشعر الجاهلي» تجتاح الأوساط الثقافية والدينية والسياسية، بعد مجموعة من المحاضرات ألقاها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، على طلبة كلية الآداب في الجامعة ثم جمعها في كتاب نشر عام 1926.
خلص طه حسين في كتابه إلى أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كُتب بعد ظهور الإسلام ونُسب للشعراء الجاهليين، وهو ما أثار عاصفة من الاحتجاج قادها «حراس الماضي» من أزاهرة وأدباء وساسة، متهمين الأزهري السابق العائد من باريس بازدراء الدين الإسلامي والتشكيك في القرآن.
ويخاطب طه حسين قراءه فيقول: «لا أضعف أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرأه على أنه شعر إمرؤ القيس أو طرفة بن العبد أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شىء، إنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صيغة النحاة أو اختراع المحدثين والمتكلمين.. الكثرة المُطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي مُنتحلة مُختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلى الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي».
دعا “حسين” في كتابه من يريد أن يلتمس الحياة العربية قبل الإسلام أن يلتمسها في القرآن وليس في هذا الشعر الذى يقال إنه جاهلي.
بعد نشر كتاب في «الشعر الجاهلي» تقدم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر في 30 مايو عام 1926 ببلاغ إلى النائب العام ضد الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية، يتهمه فيه بأنه ألف كتابا ونشره على الجمهور، يطعن في القرآن العظيم.
وفى 5 يونيو من ذات العام تقدم شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، ببلاغ مماثل يتهم فيه حسين بتأليف كتاب كذّب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبى، مطالبا باتخاذ الوسائل القانونية الفعالة ضد هذا «الطعن في دين الدولة الرسمى وتقديم المؤلف للمحاكمة»، ثم لحق عبدالحميد أفندي البنان عضو مجلس النواب، بشيخ الأزهر، وقدم بلاغا أكد فيه أن «في الشعر الجاهلي» يتضمن طعنا وتعديا على دين الدولة الرسمى.
بدأت النيابة التحقيق في البلاغات في أكتوبر عام 1926، وباشر التحقيق مع طه حسين، محمد نور رئيس نيابة مصر، ذلك «المثقف المصري الكبير، الذي رأى أن القضية ليست جنائية بالمرة وأنها قضية غير عادية وأن الحكم فيها تبعا لذلك يحسمها لمناصرة الموقف العلمي وحرية البحث العلمي ولصالح الديمقراطية ومستقبل البلاد»، بتعبير الأستاذ خيري شلبي في كتابه «محاكمة طه حسين».
ويصف “شلبي” قرار رئيس النيابة بأنه ليس مجرد تكييف قانوني أو فتوى قانونية أو محضر تحقيق مقدم للقضاء ضمن وثائق قضية، «إنما هو بحث علمي أيضا وصياغة أدبية على مستوى رفيع».
محمد نور، رئيس النيابة، أثبت في قراره المنهج الذى سار عليه في التحقيق حتى يكون الحكم عنوان الحقيقة وليس مطية للأهواء، وقال «ومن حيث إن العبارات التى يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين الإسلامى، إنما جاءت في كتاب، في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذى أُلف من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى، لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا، بحثها حيث هى في موضعها من الكتاب، ومناقشتها في السياق الذى وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها، وتقدير مسئوليته تقديرا صحيحا».
وختم “نور” تقريره بعد 6 أشهر من التحقيقات والذي نشره بعد ذلك في كتيب صغير حققه وقدم له خيري شلبي في كتابه بقوله: وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا.
وانتهت التحقيقات بتبرئة طه حسين أمام رئيس النيابة المثقف المنتصر لحرية الرأي والتعبير، إلا أن النار ظلت مشتعلة في ساحات البرلمان والصحافة والجامعة.
ففي الوقت الذي قرر فيه رئيس نيابة مصر محمد نور، حفظ البلاغات التي قُدمت ضد طه حسين بعد نشر كتابه عام 1926، اشتعلت ساحات البرلمان والصحافة وشكك رجالهما في عقيدة الأزهري العائد من باريس.
في تلك الأثناء شكل الملك فؤاد الحكومة من ائتلاف ضم «الوفد» و«الأحرار الدستوريين»، وتولى عدلي باشا يكن من «الأحرار» رئاسة الحكومة، بينما اختير سعد زغلول رئيسا للبرلمان الذى تحول إلى منصة إطلاق نار على كتاب «في الشعر الجاهلي».
ومع كل ذلك، عاش طه حسين حياته مقاوما للتخلف والرجعية والجمود والفكر المتحجر، وانتصر للتنوير والحداثة، وأدرك أن هذه الأمة لن تصلب قامتها إلا بالتعليم والحرية، وأن الشعوب لن تنتصر على الفقر والمرض والجهل إلا بالمعرفة والعدالة والديمقراطية.
---------------------------
المصادر:
- بيانات التحقيق مع «عميد الأدب» محاكمة طه حسين.. وثيقة أدبية لا تموت(خيرى شلبى) الناشر: كتاب «القاهرة» - عن هيئة الكتاب المصرية – 2016
- السيد نجم – البيان - ديسمبر 2016
- كيف برأت النيابة طه حسين من تهمة «التشكيك في القرآن»؟ محمد سعد عبد الحفيظ - منوعات أون لاين
-"طه حسين يواجه حراس الماضى" محمد سعد عبد الحفيظ - منوعات اصوات اون لاين