ساعات قليلة تفصلنا عن الحدث الأكبر والأهم فى مصر وعلى مستوى العالم، حيث مدينة الأقصر دائمة السحر، متجددة البهاء، أكبر متحف آثار مفتوح على مستوى العالم، ففى مساء اليوم الخميس، العالم على موعد مع رائعة مصرية جديدة، وهي افتتاح طريق المواكب الكُبرى المعروف بـ«طريق الكباش».
وكما أبهر المصرى العالم منذ شهور قليلة بموكب أسطوري انطلق من قلب القاهرة عاصمة مصر، ذلك الحفل الذى قض المضاجع، وفغرت له الأفواه، وترقبه الكبير والصغير، وطرب له كل من امتلك ذوق وقدرة على مشاهدة الجمال، ذلك الحفل الذى جعل مصر قِبلة المريدين والمحبين، وها هى مصر مرة أخرى تُطّلق حدث عالمى فى أقصى جنوبها، وعلى ضفاف النيل الخالد، من هناك، من مدينة الأقصر ستهتز أركان العالم بإعلامه وقنواته ووسائل تواصله، ستسلط الأضواء لتنقل لكل رجل وامرأة وشاب وفتاة فى كل بقعة من بقاع الأرض، عظمة المصرى القديم، وعظمة أحفاده الذين سطروا ويُسطرون للمرة الثانية والثالثة والألف ملحمة من ملامحم الإنسانية، ليقدموها – كما تعودوا - هدية للعالم أجمع.
الطريق الأسطورى.. بين الكباش ورأس الملك
طريق المواكب الكُبرى، أو طريق الكباش، يربط بين معبدي الأقصر والكرنك، مرورًا بمعبد موت، ويبلغ طوله 2700 متر، وعرضه 76 متر، وتتراص على جانبيه تماثيل على هيئة أبوالهول، برأس كبش وجسد أسد وهى «أحد الرموز المقدسة للمعبود آمون في الديانة المصرية القديمة» في المسافة بين الصرح العاشر بالكرنك حتى بوابة معبد موت.
شُيد هذا الجزء الهام من الطريق خلال عصر الأسرة الثامنة عشرة من الأسرات الفرعونية، ثم شيد الملك نختنبو الأول، أحد ملوك الأسرة الثلاثين الجزء المتبقى من الطريق، والذى تتراص على جانبيه تماثيل بنفس الحجم تقريبًا على هيئة أبوالهول برأس آدمية وجسد أسد، وتتوسط قواعد التماثيل أحواض زهور دائرية الشكل مزودة بقنوات صغيرة لتوصيل مياه الرى لتلك الأحواض، كما أضيفت بعض المُلحقات للطريق فى فترات زمنية مختلفة مثل استراحات الزوارق، ومقياس للنيل، وبعض معاصر النبيذ التى تُستخدم فى الاحتفالات الكبرى؛ تلك التى كانت تُقام على الطريق مثل عيد الوادي الجميل، وأعياد الأوبت وغيرها، إضافة إلى الحمامات وأحواض الاغتسال، ومنطقة خاصة بتصنيع الفخار، وعدد من المخازن لحفظ أوانى النبيذ.
كانت البداية في العام 1949 وفى إحدى محاولات التنقيب عن الآثار فى مدينة الأقصر اكتشف عالم الآثار المصري الدكتور زكريا غنيم 8 تماثيل على شكل أبوالهول بالقرب من معبد الكرنك، وبعدها بتسع سنوات وبالتحديد عام 1958، اكتشف الدكتور محمد عبدالقادر 14 تمثالًا في نفس المنطقة تقريبًا بنفس الشكل، وهو ما دفع لتسليط الضوء على هذه المنطقة، وبعد فترة من العمل الجاد اكتشف الدكتور محمد عبدالرازق 64 تمثالا آخرين، عام 1961، بنفس الشكل وعلى نفس الهيئة، وهو ما دفع عالم الآثار الدكتور محمد الصغير في منتصف السبعينيات لمواصلة العمل بالموقع للتأكيد على فرضية وجود طريق تاريخى قديم ومدفون، وبالفعل استطاع أن يكتشف جزء من هذا الطريق، الذي يربط بين الصرح العاشر فى معبد الكرنك ومعبد موت.
فى العام 2006، استطاع عالم الآثار منصور بريك تحديد الطريق الكامل من معبد الكرنك وصولًا لمعبد الأقصر، وكانت العقبة أمامه التعديات على الطريق المدفون، وهو ما جعله غير قادر على تنفيذ خطته لكشف الطريق كاملًا، إلى أن جاءت الفكرة الكاملة لإحياء الطريق في العام 2017.
فكرة إحياء طريق الكباش كانت بمثابة حلم يراود الأثريين بشكل خاص، وكل مصرى فخور وغيور على حضارة بلاده بشكل عام، وهذا الطريق بمثابة تأصيل وتوثيق لعبقرية وتفرد الفكر المصري القديم، وتخطيطه للربط بين المعابد القديمة، ومسار الطريق معروف ومحدد منذ وقت طويل كما أشرنا، وذلك حينما اكتشف جزء منه أمام معبد الأقصر، وآخر أمام معبد الكرنك، حينما كانت المنطقة منطقة زراعات، وكان هناك بعض المنازل المُقامة على الطريق وبالقرب منه، إلى أن أزال المجلس الأعلى للآثار هذه التعديات.
المدينة التاريخية تتزين
خلال الأيام القليلة الماضية جرت زيارات عديدة من قيادات الحكومة لمدينة الأقصر للوقوف على الاستعدادات والتجهيزات النهائية للفعالية الكبرى «الأقصر.. طريق الكباش» والمقرر انطلاقها مساء اليوم للترويج السياحى لمحافظة الأقصر وإظهار مقوماتها السياحية والأثرية، حيث تفقد عدد من قيادات الحكومة وعلى رأسهم الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء، معابد الأقصر والكرنك للوقوف على الموقف التنفيذي لأعمال تطوير وتجهيز المنطقة الأثرية، ورفع كفاءة الخدمات السياحية المقدمة للزائرين بها، بالإضافة للتأكد من رفع كفاءة مسارات الزيارة وأعمال الترميم، وما تم إنجازه من أعمال وتطوير ونظام إضاءة جديد يتماشى مع النسق الحضارى لهذه المواقع، لإبراز المنطقة الأثرية ورونقها، علاوة على زيارة السوق السياحي بالمدينة، والتأكيد على ظرورة إنجاز أعمال التطوير الجارية به، وكذلك التأكيد على التجهيزات الخاصة بمعبد الأقصر وآخر التجهيزات الخاصة بالفعالية.
كما اهتمت قيادات وزارة الآثار بأصحاب البازارات السياحية والعاملين، واستمع المسئولون لآرائهم ومطالبهم والمشكلات التي يواجهونها ومقترحاتهم لحلها منها شكواهم من مرور الموتوسيكلات داخل السوق مما يزعج المارة والزائرين والسائحين أثناء تجولهم ويؤثر على تجربتهم بالسوق وهو مما يعود بالسلب على سمعة المقصد السياحي المصري، ووجه العاملون بالبازارات الشكر للدولة لإقامتها الاحتفالية الكبيرة بمدينة الأقصر مما يساهم في الترويج السياحي للمحافظة بصورة أكبر، وكذلك رواج أعمالهم مما يساهم فى تحسين مستوى معيشتهم، كما أشادوا باهتمام وزارة الآثار وحرصها على متابعة مشكلاتهم والعمل على تزليل الصاب أمامهم.
ومن المُتوقع أن تُبرز وتلقى هذه الاحتفالية مزيدًا من الضوء على مقومات الأقصر السياحية والأثرية، إلى جانب ما تم بها من أعمال تطوير ورفع كفاءة للبنية التحتية وتطوير وتجميل الكورنيش والشوارع والميادين بها ومشروعات الترميم بها، وهذا تُرجم بالفعل على أرض الواقع قبل أن تُقام الاحتفالية حيث ارتفعت نسبة السيولة السياحية الوافدة للمدينة القديمة، وفق ما أعلنته لجنة تسويق السياحة الثقافية بالأقصر، التى أكدت أن عددًا من شركات السياحة تقدّمت بطلبات تعديل البرنامج الخاص بزيارة المناطق الأثرية، ليتمكن السائح من قضاء يوم كامل في طريق الكباش بعد افتتاحه.
خطة طبية متكاملة لتأمين الاحتفال
منذ أيام وجهود الدولة المصرية مكثفة بمدينة الأقصر لتجهيزها للأستعداد للحدث الأهم والأكبر على مستوى العالم، هناك تجهيزات تجرى على مستوى رصف الطرق وتمهيدها، وتجهيزات أخرى للتجميل وتزيين المدينة، وتجهيزات مرتبطة بترميم وصيانة المواقع الأثرية وإعادة البريق لها مرة أخرى مثل معبد الكرنك ومعبد الأقصر، كما أن هناك استعدادات على المستوى الطبى والأمنى، استعدادًا لخروج هذا الحفل بالشكل الذى يليق باسم مصر وتاريخها.
وأعلن الدكتور خالد عبدالغفار وزير التعليم العالى والبحث العلمى والقائم بمهام وزير الصحة، عن خطة التأمين الطبى للحدث الكبير وذلك خلال اجتماع عقده بحضور الدكتور محمد الطيب مساعد وزير التعليم العالى والبحث العلمى، والدكتور أحمد السبكى مساعد وزير الصحة لشئون الرقابة والمتابعة ورئيس الهيئة العامة للرعاية الصحية، وعدد من القيادات بوزارة الصحة، حيث تناول الاجتماع عرضًا مفصلًا لمحاور خطة العمل المقرر أن تشمل توفير كافة الخدمات الطبية والوقائية والإسعافية لجميع المشاركين في فعاليات الافتتاح، بالإضافة إلى اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية في ظل مواجهة فيروس كورونا، وذلك بالتنسيق مع وزارة السياحة والآثار.
وخلال الاجتماع راجع الدكتور خالد عبدالغفار، نقاط تمركز الخدمات الطبية العاجلة بمدينة الأقصر ومنطقة الفعاليات والتي تضمن توفير 18 سيارة إسعاف، و2 لانش إسعاف نهري، بالإضافة إلى 4 عيادات متنقلة تضم تخصصات متنوعة مثل الباطنة، والقلب، والجراحة، والعظام، والتي تم توزيعها على الطرق الرئيسية، والمناطق المستضيفة لفعاليات الافتتاح بالأقصر، علاوة على جاهزية مستشفيات محافظة الأقصر ورفع درجة الاستعداد بها والتي تشمل تخصيص 5 مستشفيات ضمن منظومة التأمين الصحى الشامل، بطاقة 644 سريرًا، لاستقبال أى حالات مرضية.
علاوة على دعم المستشفيات بفرق طبية إضافية في التخصصات الحرجة، والتأكيد على توفير مخزون كاف من الأدوية والمستلزمات الطبية والوقائية، وأكياس الدم ومشتقاته، بالإضافة إلى تجهيز فريق للانتشار السريع بهدف التدخل وتقديم الدعم السريع فى حالة حدوث أى طارىء، إضافة إلى انعقاد غرفة عمليات مركزية بالوزارة، لمتابعة سير العمل بخطة التأمين الطبى لفعاليات افتتاح طريق الكباش الجديد.
خبير آثار: موكب الكباش يجسّد أشهر حفل زفاف فى التاريخ بين آمون وموت
أكد خبير الآثار الدكتور عبدالرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بجنوب سيناء بوزارة السياحة والآثار أن احتفال مصر والعالم بموكب الكباش يحمل بعدًا إنسانيًا يجسّد معانى الحب في مصر القديمة حيث شيد معبد الأقصر للإله أمون رع والذى كان يحتفل بعيد زفافه إلى زوجته موت مرة كل عام فينتقل موكب الإله من معبد الكرنك بطريق النيل إلى معبد الأقصر وأطلق عليه طريق المواكب الكبرى حيث استخدمه ملوك مصر القديمة كطريقًا مقدسًا للمواكب الدينية كما فى عيد الأوبت وهو بذلك أعظم سيناريو في التاريخ يصوّر جماليات نهر النيل وبيئة طيبة القديمة والذى سيراه العالم لأول مرة يوم 25 نوفمبر.
وأوضح الدكتور «ريحان» أن جدران معبد الكرنك تحمل نقوشًا تمثل الإله آمون سيد الآلهة وزوجته موت، وهما فى مشهد عناق لافت، وقد عبّر المصرى القديم عن الحب بكلمة «مر» وكان يرمز لها برمز الفأس الذى يشق الأرض كما يشق الحب القلوب، وأن مظاهر الاحتفال مصورة بمعبد الأقصر في عدة مناظر على الجدار الغربى من الفناء الأول لرمسيس الثانى وعلى الجدار الغربى لبهو 14 العمود الخاص بالملك أمنحتب الثالث والذى ربما أكمله الملك توت عنخ آمون ونقشه بمناظر عيد الأوبت وهناك مناظر على المقصورة الحمراء للملكة حتشبسوت بمعبد آمون رع بالكرنك ومعبد الرامسيوم الخاص برمسيس الثانى.
ولفت الدكتور «ريحان» إلى أن العالم ينتظر يوم 25 نوفمبر أعظم أوبرا مفتوحة تجسّد أعظم قصة وسيناريو فى التاريخ فى احتفالية تربط الماضى بالحاضر وتبشر بمستقبل ونهضة سياحية غير مسبوقة تنتظرها طيبة القديمة والأقصر الحديثة فى بانوراما بصرية جديدة تشبع العين والعقل والوجدان وتنتظرها كل معالم مصر السياحية حيث يشهد هذا اليوم بأن مصر عادت شمسها الذهب لتشرق على العالم بثوب الزفاف الأبيض الذى جمع آمون وموت بمعبد الأقصر لتنشر بين ربوع العالم رسائل الحب والوفاء من عمق مصر قلب حضارات العالم وملتقاها.
ولفت الدكتور «ريحان» إلى أهمية عيد الأوبت في تاريخ مصر القديمة حيث إن مهرجان الأوبت أو الإبت هو احتفال مصرى قديم كان يقام سنويًا في طيبة «الأقصر» في عهد الدولة الحديثة وما بعدها، وفيه كانت تصطحب تماثيل آلهة ثالوث طيبة - آمون وموت وابنهما خونسو - مخفيين عن الأنظار داخل مراكبهم المقدسة فى موكب احتفالى كبير من معبد آمون في الكرنك إلى معبد الأقصر في رحلة تمتد لأكثر من 2كم وما يتم إبرازه في هذا الطقس هو لقاء أمون رع وزوجته موت وتجديد الولادة هو الموضوع الرئيسى فى احتفال الإبت وعادة ما يتضمن احتفالية لإعادة تتويج الملك كذلك.
وأوضح الدكتور «ريحان» أن تماثيل الإله فى الاحتفالات الأولى للأوبت كانت تؤخذ عبر طريق الكباش الذى يربط بين المعبدين، وتتوقف فى المعابد الصغيرة التي شيدت خصيصًا في طريقها، وهذه المعابد الصغيرة أو الأضرحة كان يمكن أن تكون مليئة بالقرابين المهداة للآلهة أنفسهم وللكهنة الحاضرين للطقوس، ثم تعود المراكب المقدسة إلى الكرنك، وفى الاحتفالات المتأخرة من تاريخ مصر، كان يتم نقل التماثيل من وإلى الكرنك عن طريق القوارب فى النهر وليس عبر طريق الكباش البرى ويُعقد احتفال إبت في الشهر الثاني من فصل أخت وهو موسم فيضان نهر النيل.
كما كان يبحر قارب ملكي كذلك مع قوارب الآلهة المقدسة، وكانت الطقوس في ما يعرف بـ«غرفة الملك الإلهى» تعيد الاحتفال بتتويج الملك وبالتالي تؤكيد أحقيته بالمُلك.
ويشير الدكتور «ريحان» إلى أن مدة الاحتفال كانت عشرة أيام تترك خلالها قوارب المعبودات مقاصيرها بالكرنك فى الشهر الثانى من موسم الفيضان وتذهب إلى معبد الأقصر، ثم تعود إلى الكرنك بعد عشرة أيام، وقد اختلفت عدد أيام الاحتفال بهذا العيد، ففى الأسرة 18 كان الاحتفال به لمدة 11 يوما، وفى الأسرة 19 كان 21 يوما وفي الأسرة 20 كان 27 يومًا.
وتبدأ المناظر بعيد الأوبت من الركن الشمالي الغربي من صالة الأعمدة بمعبد الكرنك وتنتهى فى الركن الشمالى الشرقى، حيث نجد توت-عنخ-آمون وهو يحرق البخور ويقدم القرابين والزهور لآمون والصور المقدسة للأرباب بعدها تحمل القوارب لتخرج من الصرح أو بوابة المعبد الذى بناه أمنحتب الثالث، «هو حاليًا الصرح الثالث لمعبد الكرنك» حتى تصل إلى شاطئ النهر حيث توضع على متن المراكب التى تجر بالحبال في اتجاه الجنوب حتى تصل إلى معبد الأقصر يصاحبها حملة الأعلام وكبار الموظفين والجنود والموسيقيون من عازفى الطبول والأبواق والمغنيين والراقصين النوبيين.
ويتابع الدكتور «ريحان» بأن قادة العجلات الحربية والجنود والراقصون والموسيقيون وحملة القرابين والجزارون الذين يذبحون الثيران المقدمة كقرابين كانوا يستقبلون هذه الموكب العظيم في معبد الأقصر حيث يحمل الكهنة القوارب ثانية ليمروا بها بين القرابين المكرسة والرقصات الأكروباتية والموسيقيين حتى يضعوها على قواعدها فى داخل مقاصيرها.