"لا تتركونا هنا بدون أمل" عبارة موجزة أفلتت من فم رب أسرة أفغانية تعانى من تردى الأوضاع الصحية فى البلاد، بعد سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، منتصف أغسطس الماضي، وما تبعه من تغيير العالم لنظرته للبلد الآسيوي، وتقلصت المساعدات ما انعكس سلبا على الشعب الأفغاني.
وعلى النقيض من ذلك قال أحد كبار قادة «طالبان»: «لا تخطئ فى التفكير فى أننى سأعانى من العقوبات، سأحصل دائمًا على راتبى ووجباتى وأموالى للحفاظ على دفء مكتبي»، لتكشف تلك التصريحات التى أوردتها صحيفة «الجارديان» البريطانية فى تقريرها مستهل الأسبوع الجاري، حجم المأساة التى بات يعانى منها الشعب الأفغانى الذى وقع فريسة تحت مقصلة «طالبان».
تدهور فى جميع الخدمات والمرافق.. والتنكيل بالمرأة والصحافة
باتت أفغانستان سجنا كبيرا منذ منتصف أغسطس الماضي، وهرع أفراد الشعب إلى مطار حامد كرزاى الدولى فى العاصمة كابول، هربا من براثن «طالبان»، التى عادت للحكم بعد ٢٠ عاما، ومرت المائة يوم الأولى من حكم الجماعة المتشددة، لتكشف ملامح حكم طالبان، التى أسهبت فى الوعود بعدم الرجوع بالبلاد إلى ما قبل عشرين عاما، إلا أن الواقع يشى بغير ذلك، وهو ما تبين فى ملفات عديدة على رأسها ملف المرأة والحريات وحقوق الإنسان.. إلخ.
وفرضت طالبان سيطرتها على البلاد إثر انسحاب القوات الأجنبية وفقا للاتفاق الموقع بين الولايات المتحدة فى العاصمة القطرية الدوحة العام الماضى ٢٠٢٠، وبموجبه أنهت واشنطن عشرين عاما من التواجد «لمكافحة الإرهاب» فى أفغانستان فى أعقاب هجمات الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ التى ضربت عقر دار بلاد العام سام.
"طالبان" تظهر وجهها الحقيقى
بعد أيام قليلة من وصول «طالبان» للحكم، عقد ذبيح الله مجاهد الذى أصبح فيما بعد وزيرًا للإعلام فى حكومة الحركة، مؤتمرا صحفيا أطلق من خلاله وعودا كثيرة حاول بث رسائل للعالم المتيقن من المصير الذى آلت إليه أفغانستان، وحاول «مجاهد» تبديد ذلك اليقين إلا أن الواقع أثبت أن تلك الوعود لم تكن إلا كلاما فى الهواء.
قال ذبيح الله مجاهد، إن جماعته تعمل بنشاط على تشكيل الحكومة وسيعلن عنها بعد استكمالها، مضيفًا: «ستكون المرأة نشطة للغاية فى مجتمعنا، وسيسمح لها بالعمل فى إطار قوانيننا الإسلامية»، وأكد أنه لن يتم الانتقام من المتعاقدين والمترجمين الذين عملوا مع القوات الأجنبية، وأن الحركة تعفو عن الجميع لصالح الاستقرار والسلام فى أفغانستان.
وأضاف «مجاهد» أن طالبان وعدت باحترام دور الصحافة، وتتعهد بأن الإعلام الخاص يمكن أن يستمر فى أن يكون حرا ومستقلا، لكنه حذر من أن الإعلام يجب ألا يعمل ضدنا.
المرأة فى أفغانستان
أعلنت طالبان عن حكومتها التى ستدير البلاد، بعد أقل من شهر من سيطرتها على أفغانستان، وجاءت خالية من أى امرأة، فى مؤشر على عدم تغير نظرة الحركة للنساء، وأصدرت طالبان مؤخرا تعليمات لقطاع التليفزيون بتجنب إذاعة المسلسلات التى تعرض النساء، وصدرت توجيهات ضد البرامج «المناهضة للقيم الإسلامية والأفغانية» ولإرغام الصحفيات على ارتداء الحجاب.
وفى الحادى والعشرين من نوفمبر الجاري، أصدرت وزارة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، تعليمات للتليفزيون الأفغانى للمرة الأولى منذ تولى طالبان السلطة فى منتصف أغسطس.
وتدعو التعليمات بالتوقف عن بث مسلسلات تظهر النساء، وقالت وثيقة للوزارة موجهة إلى وسائل الإعلام أوردتها صحيفة «لموند» الفرنسية: «يجب أن تتجنب التليفزيونات عرض المسلسلات التى مثلت فيها النساء»، كما دعا الصحفيات إلى ارتداء الحجاب الإسلامى على الشاشة، كما أن التليفزيونات الأفغانية مدعوة لتجنب البرامج المناهضة للقيم الإسلامية والأفغانية، وكذلك البرامج التى تسيء إلى الدين أو تظهر النبى وأصحابه.
وقال المتحدث باسم الوزارة حكيم مهاجر: "هذه ليست قواعد بل مبادئ دينية، وخلال حكم طالبان السابق الذى استمر ٥ سنوات من عام ١٩٩٦ إلى عام ٢٠٠١، تم حظر التليفزيون والسينما، وكانت وزارة النهى عن المنكر، هى المسئولة عن ضمان الاحترام اليومى للقيم الإسلامية للسكان".
كانت «طالبان» قد حظرت التليفزيون والأفلام وجميع أشكال الترفيه التى تعتبر غير أخلاقية، وعوقب الأشخاص الذين تم القبض عليهم وهم يشاهدون التليفزيون ودمرت أجهزتهم، وكان حيازة جهاز فيديو يعاقب عليه بالجلد العلني.
وعلى الرغم من الوعود التى قطعتها طالبان بشأن ملف المرأة إلا أنه إلى الآن ما زالت تمنع العديد من النساء من العودة إلى العمل فى الخدمة العامة، واستمر إغلاق فصول الفتيات فى المدارس الإعدادية والثانوية، وكذلك الجامعات الحكومية، فى معظم أنحاء البلاد، وفى الجامعات الخاصة، وطالبت الحركة الطالبات بالحجاب كما قام مقاتلوهم بشكل متكرر بضرب الصحفيين المتهمين بتغطية مظاهرات من قبل نساء.
وقبل وصول «طالبان» للحكم، شغلت النساء ٦.٥٪ فقط من المناصب الوزارية فى أفغانستان وفقًا لبيانات يناير ٢٠٢١ من الاتحاد البرلمانى الدولى «IPU»، وهى منظمة دولية تابعة لمنظمة البرلمانات الوطنية ومقرها جنيف، ولكن النسبة وصلت إلى ٠٪ بعد سيطرة الحركة.
وبذلك تصبح أفغانستان من بين ١٣ دولة لا تضم حكوماتهم نساء وهي: السعودية واليمن وأذربيجان وأرمينيا وبروناى وكوريا الشمالية وبابوا غينيا الجديدة وسانت فنسنت والجرينادين وتايلاند وتوفالو وفانواتو وفيتنام.
انهيار الرعاية الصحية
خلال شهر سبتمبر الماضي، وصل رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جيبريسوس، إلى العاصمة كابول لتفقد الوضع فى البلاد، وأطلق تحذيرا من أن نظام الرعاية الصحية بأكمله على وشك الانهيار، مما دفع الأمم المتحدة إلى تنظيم تكلفة رواتب شهر واحد، وهو الأمر الذى لم يكن كافيا بالمرة لانتشال القطاع الصحى الأفغانى من عثرته.
ووفقا لـ«الجارديان» فإن معاناة قطاع الصحة فى أفغانستان، بسبب أن بعض المستشفيات أنشئت معتمدة على المساعدات الخارجية، التى تقلصت أو توقفت تماما بعد سيطرة طالبان على البلاد، بغية عدم منح الشرعية للحركة.
وقال إيمرسون جونو، منسق بعثة منظمة أطباء بلا حدود فى ولاية هلمند الواقعة جنوب البلاد: «كان النظام الصحى فى أفغانستان معتمدًا بشكل كبير على المانحين، الذين أوقفوا دعمهم، والآثار المترتبة على هذا الانقطاع مأساوية»، مضيفًا: «إننا غارقون فى عبء العمل، فالناس يأتون من جميع أنحاء ولاية هلمند وحتى من الولايات الأخرى، ونحن نعمل بطاقة أكبر من قدراتنا بكثير، لأننا لن نترك أو نتجاهل شخصا نراه فى حالة حرجة».
العلاقات الخارجية
لا تتعلق سياسات الدول بالأهواء، وإنما تحكمها المصالح، وتتجسد تلك العبارة فى علاقة باكستان بالتطورات فى جارتها الشمالية أفغانستان التى ترتبط معها بحدود طولها ٢٤٠٠ كم بعد عودة طالبان مرة أخرى للحكم، وترى إسلام أباد أن مصالحها مرتبطة بالحركة خاصة فى ظل التوتر الدائم مع الهند، والتى كان لها عدد من القنصليات فى أفغانستان ما يمثل نفوذها متزايدا لنيوديلهي، فى ظل الصراع مع إسلام أباد.
وترغب الحكومة الباكستانية إلى تعزيز التعاون الاقتصادى مع طالبان، فيما تسعى البلد الذى يمتلك أسلحة نووية، ويعيش على أرضه ١.٤ مليون لاجئ أفغاني، أغلبهم بلا أوراق ثبوتية، إلى أن تكون أفغانستان منفذها إلى دول شرق آسيا.
التقارب مع الصين
ترجع أهمية أفغانستان بالنسبة للصين لكونها إحدى الدول التى الموجودة فى مبادرة طريق الحرير، إلى جانب موقعها بآسيا الصغرى الذى يمثل أهمية كبيرة لبكين، بالإضافة إلى خشية المارد الآسيوى من أن يمثل سيطرة طالبان على حكم أفغانستان ملاذًا لمجموعة الإيجور المتطرفة التى تسمى نفسها حركة تركستان الشرقية الإسلامية، ناهيك عن اعتقاد بكين أن حركة طالبان قد تشن هجمات ردا على القمع الواسع للإيجور.
وفى يوليو الماضى التقى وزير الخارجية الصينى وانغ يى رئيس اللجنة السياسية لحركة طالبان الأفغانية الملا عبدالغنى بارادار.
وفى ٢٦ أكتوبر الماضي، دعا وزير الخارجية الصينى وانج يى الولايات المتحدة والدول الغربية لرفع العقوبات المفروضة على أفغانستان، وجاء فى بيان صدر عن وزارة الخارجية الصينية، أن وانغ يى أشار أثناء لقائه مع عبدالغنى برادر الذى عينته حركة «طالبان» لمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء الأفغانى المؤقت، فى العاصمة القطرية الدوحة، إلى أن الصين تعير اهتمامًا كبيرًا للصعوبات الإنسانية التى تواجهها أفغانستان فى الوقت الراهن وتدعو الولايات المتحدة والدول الغربية بإلحاح لرفع العقوبات.
تصدير الإرهاب
دشنت روسيا «منصة موسكو» بمشاركة ١٠ دول هى روسيا والصين وباكستان وإيران والهند وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمنستان وأوزبكستان، لبحث مستقبل حركة «طالبان»، بعد وصولها لحكم أفغانستان.
وأوضح زامير كابولوف مبعوث الكرملين إلى أفغانستان، شروط موسكو للاعتراف بـ«طالبان» قائلًا: «لقد قيل هذا الأمر إلى الوفد الأفغاني، هذه اللحظة (الاعتراف) لن تأتى إلا حين يبدأ فى الوفاء بالقسم الأكبر من توقعات المجموعة الدولية بشأن حقوق الإنسان والطابع الشامل للنظام»، مضيفًا أن حركة طالبان أكدت أنها تعمل على هذا الأمر، وأنها تعمل على تحسين الحوكمة وتحسين وضع حقوق الإنسان.
وأوضح أن الدول العشر التى شاركت فى منصة موسكو، دعت الأمم المتحدة إلى تنظيم مؤتمر دولى للمانحين فى مواجهة مخاطر وقوع أزمة إنسانية.
وكان وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف أقر بما تبذله حركة «طالبان» من جهود لتحقيق الاستقرار فى أفغانستان، مشيرا إلى أن الخطر الإرهابى القادم من البلاد يهدد المنطقة بأسرها، مضيفًا: «نعترف بالجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار فى الوضع السياسى العسكري»، مشيرا إلى أن هناك خطرًا حقيقيًا.. لامتداد النشاطات الإرهابية وتهريب المخدرات.. إلى أراضى البلدان المجاورة.
النفوذ الهندى
وفى العاشر من نوفمبر الجاري، استضافت الهند اجتماع منصة موسكو، الذى غاب عنه باكستان والصين، وحاولت نيودلهى معادلة نفوذ إسلام أباد وبكين فى كابول، حسبما ذكرت وكالة «رويترز» فى تقرير لها، وكانت باكستان اتهمت الهند قبيل هذا الاجتماع بأنها الطرف المفسد فى المنطقة.
وكان السفير الهندى فى قطر ديباك ميتال، التقى فى أواخر أغسطس الماضى مع شير محمد عباس ستانيكزاى رئيس المكتب السياسى لطالبان فى الدوحة، بناء على طلب الحركة وناقش الجانبين سلامة الهنود الذين ما زالوا فى أفغانستان، وقالت وزارة الخارجية إن ميتال نقل أيضا مخاوف نيودلهى من أن مسلحين مناهضين للهند قد يستخدمون الأراضى الأفغانية لشن هجمات.
الاعتراف الدولي
وفى هذا السياق، كشف الدكتور محبوب الرحمن صافی، الباحث الأفغانى والمحلل السياسى، أنّ هناك فروقا بين الحكمين السابق والحالي، فى التسعينيات حيث استولت «طالبان» على الحكم بأيديولوجيات خاصة وبتمويل مختلف، كانت فى التسعينيات ممولة من قبل الاستخبارات الباكستانية، والتى كانت ضمنا تمول من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وكان الهدف الأول استخراج الترسانة الروسية التى خلفها الغزو السوفيتى إلى باكستان، ومن ثمّ إلى أمريكا، والهدف الثانى تشويه سمعة الجهاد الأفغانى وأنه ليس قادرا على إدارة البلاد، وإغراقه فى الحروب الأهلية التى كانت تموّل من قبل دول المنطقة والعالم نظرا لمصالحها الاقتصادية والسياسية، وبالفعل استطاعت حركة طالبان القضاء على حكومة المجاهدين المتمثلة فى حكومة ربانى ذاك الوقت.
وأوضح «صافى»، فى تصريحات خاصة لـ«البوابة»، أنه فى ٢٠٢١، جاءت «طالبان» بوجه آخر، ومن مصدر آخر، هذه المرة جاءت من الدوحة، بعد مفاوضات استمرت قرابة سنتين بين الولايات المتحدة وطالبان، والحكومة الأفغانية المتمثلة فى حكومة أشرف غني، ويبدو أن «طالبان» كانت ترغب فى الوصول إلى الحكم هذه المرة، بأى طريقة كانت، فقامت بالصلح مع واشنطن أوّلا، ولم تعط أهمية لحكومة غني، حيث جلست على طاولة المفاوضات فى الدوحة وليس فى كابول.
وأشار إلى أن أعضاء حركة «طالبان» الذين شاركوا فى المفاوضات، أدركوا اللعبة السياسية العالمية هذه المرة نوعا ما، وجلسوا مع عدة دول، رجعت وترغب فى الوصول إلى علاقات دبلوماسية سلمية مع دول الجوار والمنطقة والعالم، فبعد أن دخلت «طالبان» كابول فى أغسطس ٢٠٢١ لوحظ أنهم لم يتدخلوا فى شئون الناس كثيرًا قياسا بأيام التسعينيات، وأظهروا لينًا فى التعامل مع الشعب، وأباحوا أخذ الصور، ولم يجبروا النساء والفتيات على الحجاب فى الشوارع، ولم تقام المحاكم العشوائية فى الشوارع لقطع الأيدى والرقاب، كلّ هذا من أجل كسب الاعتراف الدولي، وتحقيق بنود الاتفاقية فى الدوحة مع الولايات المتحدة، والتى تشمل بنودا كثيرة من أهمها تشكيل حكومة مشتركة من قبل الأطياف المتعددة، ومنح حقوق المرأة حقها، وعدم الاستفادة من الأراضى الأفغانية ضد المصالح الأمريكية فى المنطقة والعالم، وخاصة من قبل تنظيم القاعدة، وداعش.
وأشار الباحث الأفغانى والمحلل السياسي، إلى أن تنظيم «داعش» الإرهابي، هو تنظيم منشق من تنظيم «القاعدة»، ويختلف معها فى بعض الأفكار والأيديولوجيات، وهى التكفير، وله حضور فى أفغانستان، وهذا يختلف مع «طالبان»، التى ليس لها حضور عالمي، وهى حركة منحصرة فى أفغانستان فقط، لافتا إلى أن حركة «طالبان» لا تستطيع القضاء على داعش، خاصة أن هذا التنظيم الإرهابى يمول من أيدٍ خفية، خاصة فى ظل محاولات إيران إضعاف "طالبان".
وتابع: "ليس من البعيد أن تمول الولايات المتحدة تنظيم داعش لاستخدامه ضد دول الجوار، لإثبات عجز طالبان من جهة، ولإيجاد حجة قوية للتدخل العسكرى الأمريكى مرة أخرى فى المنطقة، ولو عن طريق الطائرات المسيرة، حتى لا يبقى الفراغ كاملا للروس والصين".
الصدام مع "داعش"
ومن جانبه، أكد محمد عبادي، الباحث فى العلاقات الدولية، أنّ الأوضاع تبدو شديدة التعقيد فى أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على الحكم، والانسحاب غير المنظم من قبل القوات الأمريكية، لافتا إلى أنه يمكن لحركة مسلحة أن تسيطر على الحكم، وفقًا لاعتبارات مجتمعية أو حتى ما تفرضه الجغرافيا على طبيعة أنظمة الحكم فى هذا البلد، لكن التحدى الحقيقى هو كيفية إدارة أفغانستان وطريقة الحكم، التى من شأنها أن توفر حياة كريمة للشعب من عدمه.
وأشار «عبادي»، فى تصريحات خاصة لـ«البوابة»، إلى أنه حتى الآن يسيطر المشهد الأمنى وتداعياته على المشهد فى أفغانستان، ليتراجع خلفه الوضع الاقتصادي، فأفغانستان التى تعتمد على المعونات والمساعدات إلى حدٍ كبير، وتبدو اليوم معزولة فى ظل حكم نظام لديه خصومات واشتباكات مع دول كثيرة مانحة، فضلا عن انتظار الدول الكبرى للوقوف على طبيعة حكم ملالى طالبان، وتأخير تقديم الدعم، للمقايضة بفرض أسلوب حكم رشيد مقابل هذه المساعدات.
ونوه إلى أن السنوات الطويلة للحرب فى أفغانستان التى أعقبت فترة حكم طالبان لـ٥ سنوات تقريبا، وانتهت بالغزو الأمريكى فى ٢٠٠١ عقب تفجيرات ١١ سبتمبر، وإنهاء حكم طالبان بقوة السلاح، ما فتح أبواب الاشتباكات المستمرة على مصراعيه طوال هذه المدة، بين حركة مسلحة تبحث عن سلطتها، وبين حكومات مدعومة من الجيش الأمريكى تسعى لفرض واقع جديد.
وأكد أن مفاوضات الحركة مع واشنطن، وتعاملها مع أطراف أخرى كالصين وروسيا وتركيا، وتفاهماتها مع عدد من الدول العربية، يمثل مؤشرا على تطور الحركة من الناحية السياسية، وهذا ما يمكن معه على الأقل فى المرحلة الأولى التنبؤ بسلوك طالبان لمسار غير صدامي، مع التأكيد على أنّ المظلة الفكريّة فيما يتعلق بالحقوق والحريات فى داخل البلاد، هى ذاتها لم تتغير، وما آمنت به الحركة فى فترة حكمها الأولى، ستطبقه فى فترة حكمها الثانية، والرهان هنا على أمور مركزيّة متعلقة بالعلاقات مع الخارج، مثل علاقتها مع القاعدة، وتبنيها لمطلوبين دوليا على قوائم الإرهاب، أو تبنى أجندات صدامية مع القوى الفاعلة، باعتقادى هذه أمور ستتجنبها طالبان حاليّا. وشدد على أن الخروج الأمريكى من أفغانستان هو خروج نهائى للقوات البريّة، لكن واشنطن باقية فى البلد الآسيوى استخباراتيّا أو عبر تنفيذ الضربات الجويّة، وهنا يمكن الاعتماد على باكستان فى تعاون استخباراتي، يُبقى أمريكا فى الميدان، رغم الانسحاب الأخير، كما أن واشنطن تعتمد على التعاون الأمنى مع حركة طالبان نفسها، وقد نسق الطرفان عملية الانسحاب، وليس خافيا أن انسحاب الآلاف من الجنود الأمريكيين كان تحت حماية مباشرة من عناصر طالبان.