الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

د. محمد سليم شوشة يكتب : على جسر وستمنستر.. القصة القصيرة بمقاييس الفن التشكيلي

د. محمد سليم شوشة
د. محمد سليم شوشة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

المجموعة القصصية على جسر وستمنستر للقاصة إيثار غراب الصادرة عن دار بيت الياسمين مؤخرا 2021 واحدة من النماذج المتفردة والثرية في السرد القصصي، وتصبح قصصها دالة على قدر الخصوصية والتميز الفني لصوت إيثار غراب. ويمكن أن نقول إن أبرز سمات قصها هو المقاييس التشكيلية التي حكمت هذه اللوحات السردية، فالفضاء السردي يكاد يكون متقاربا ومتوازنا بعدد شبه ثابت ومساحة شبه ثابتة قلما تختلف كثيرا أو تتفاوت حد التباين، فالقصص كلها صفحة واحدة أو ما يزيد عنها بقليل، والسمة الثانية تتمثل في الطابع التمثيلي لهذه القصص، فهي فيها جوهر فن القص من الناحية التمثيل أو المحاكاة والانفصال عن الذات، وهي اللمسة التي تعني المقدرة التخيليية التي تجعل الكاتبة صانعة لنموذجها الخاص الدال على فكرتها، فهي لا تعبر عن حالات نفسية أو إنسانية تجتاحها أو تغزو عقلها ووجدانها، فهناك نوع من الكتابة التي يمكن تسميتها بالاستجابة المباشرة للتفاعل، وهي أقرب إلى البوح والفضفضة وتبدو لصيقة وشديدة الاتصال بالذات أو تبدو الذات المعبرة عن المؤلف غير منفكة أو بعيدة عن هذا الصوت. أما النمط الثاني الذي نعنيه فهو نوع من الانفعال غير المباشر بالقضايا والأفكار، بمعنى أن المؤلف أو منشئ الخطاب حين ينفعل بالحالة أو الفكرة أو القضية فإنه لا يعبر عنها بشكل مباشرة وإنما يلجأ إلى بعض العمليات التحويلية الكامنة في صناعة خطاب منفصل أو غير ذاتي أو يتسم بقدر من الموضوعية. 

هنا يصبح السرد أقرب إلى حالة من حالات الرسم. الرسام أو الفنان التشكيلي في الغالب لا يرسم نفسه كثيرا وإنما يرسم أشياء أخرى موجودات أو شخصيات مباينة يسقط عليها أو عبرها ما بداخله أو يجعلها مطية ووسيطا تعبيريا عما يموج به من الحركة النفسية. يبدو السرد القصصي لإيثار غراب ماضيا على هذا النحو ومؤسسا على النسق ذاته من الطابع التمثيلي والموضوعي الذي فيه قدر كبير من الانفصال عن الذات ويلجأ إلى موجودات أخرى يعبر بها عما بداخله. هذا النمط من السرد القائم على التمثيل وخلق نماذج خاصة أكثر قدرة وبلاغة ونفوذا إلى وجدان المتلقي كما أن السمة الجوهرية فيه أنه يحقق المسافة الكافية للرؤية وللتحكم في هذه النماذج بما يمكن من تسخيرها لتكون جزءا من السيرورة الإبداعية بشكل إجمالي، بمعنى أن النموذج التخييلي الذي يخترعه السرد يكون جزءا من لوحة شاملة وجزءا من عناصر أخرى ويتأسس هذا السرد على نوع من التعدد والتنوع والاختلاف الذي يقوم على الشد والجذب والتباين في المواقف أو الشعور. ويصبح مؤلف مثل هذه الخطابات السردية قادرا على أن يعبر عما بداخله من خلال كافة الموجودات وليس عبر النماذج الإنسانية فقط، فنجد أن بعض قصص إيثار غراب قد مالت إلى تسخير جمادات وحيوانات لتسقط عليها الحالة التي تنفعل بها مثلما نجد في قصة الباب الجانبي المخصص للعمال في أحد الفنادق وكيف أنها أنسنته وجعلته ذاتا واعية ومتميزة ونسجت قصة بليغة أو على قدر عظيم من البلاغة السردية والقدرة على إنتاج الدلالة متعددة المستويات، فجسدت مشاعر هذا الباب ونظرت إلى غيره ثم شعوره وقت الانتزاع أو الإخراج من الفندق فيما يشبه الطرد وما شعر به من الاضطهاد وكيف هي مشاعر الباب/الجماد حين يمضي في الشوارع محملا على ظهر عربة نقل وتتقاذفه المطبات وتحولات الحياة وعثراتها وكيف يتأمل الباب كل هذا ويرى في الأشياء الصعبة مزايا حيث أمكنه لأول مرة رؤية السماء. 

ثم في قصص أخرى تلجأ إلى الحيوان وتجسد مشاعر الأبوة والأمومة والطفولة والانتماء إلى النوع والقطيع عند الجاموس البري وهو يعبر النهر متحصنا ببعضه خوفا من التماسيح. وكيف يمكنها جعل الخطاب السردي ينفذ من النموذج غير الإنساني سواء كان حيوانا أو جمادا لتعبر عن حالات إنسانية مطلقة أو عامة يتماهى معها المتلقي أو يصبح قابلا لأن يتمثل ما فيها من المشاعر والعواطف والأفكار. وفي قصة (هدية) نجد أنها تتخذ من القطة نموذجا أو مثالا سرديا تمثل به مشاعر مختلفة من العطاء والعلاقة بين البشر وتجسد مشاعر القطط ورغبتها في العزلة وتصحح فكرة أنها ناكرة للجميل، وتجعل القطة في علاقة ثرية مع أصحابها في إطارات زمنية ومكانية مميزة وخاصة، حيث تقتنص أوقات البرودة الشديدة في الشتاء وتدرك ما فيها من الخصوصية التي تخدم لوحتها السردية وتجعلها أكثر قدرة على التعبير عن الحالة التي قصدت إليها. ومن جماليات قصص إيثار غراب كذلك في هذه المجموعة كونها داخل النموذج الإنساني قادرة على اصطناع نماذج عديدة ولا تكرر نماذجها أو شخصياتها، ونجدها كذلك تعبر عن الفكرة ذاتها بأكثر من مسار تعبيري، وأكثر من حالة إنسانية أو أكثر من موقف. وهو الأمر الذي يعني أن الثابت لديها يتجسد في كل ما هو إنساني من الأفكار والمشاعر والعواطف والمتحول أو المختلف يتمثل في الألوان أو الأصباغ أو الأحداث أو النماذج الإنسانية التي تتخذها لتعبر من خلالها أو تجعلها مادة للوحتها أو فنها التشكيلي السردي.

يتقاطع سرد إيثار غراب في قصص هذه المجموعة مع الفنون الأخرى بشكل واضح، ليس فقط على مستوى المقاييس الداخلية للنص التي تشبه إلى حد بعيد مقاييس اللوحات التشكيلية التي تجعلها نابضة وثرية بالحركة والحيوية والمشاعر، ولكن كذلك على المستوى المباشر، فاللوحات والفن التشكيلي فيها حاضر والثقافة البصرية تكاد تكون مهيمنة أو آخذة على الأقل بمساحتها المعقولة، فنجد أنها في واحدة من قصصها الجميلة المتفردة وهي المعنونة بـ(نافذة) نجدها تؤسس قصتها على لوحة آكلو البطاطا لفان جوخ، ونجدها عبر تكثيف سردي وامض وخاطف تغوص مع مشاعر الشخصيات وتقارب اللوحة بشكل جديد ومختلف هو بين السرد والنقد، فهي كتابة سردية قصصية نعم، لكنها تتفاعل مع اللوحة وتقدم قراءة لها فيها كثير من الجمال القائم على التفسير والتحليل والإحساس باللوحة وما فيها من النماذج والمشاعر ثم تمنح في النهاية لمحة معرفية جميلة عن اللوحة التي لم تبع في حياة الفنان العظيم.

تدمج إيثار غراب في قصصها روافد فنية متعددة منها الموسيقى والقصص الأخرى ليوسف إدريس أو المترجم للمنفوطي أو بعض الأفلام العالمية أو بعض اللوحات ونماذج الفن التشكيلي وغيرها، وتبدو كما لو كانت قد استشعرت قدر ما في التعبير السردي وما في اللغة والكتابة من طاقات فنية مختلفة عن الرسم، وكيف أنها قادرة على صياغة حوار دال ومكثف ومعبر في جسد هذه اللوحات السردية المكتنزة أو المحدودة في فضائها السردي، وهذه معادلة سردية صعبة، ذلك لأنه في الغالب ما يتسبب الحوار في ترهل السرد أو جعله متمددا بشكل حتمي لأن الحوار يقوم على الجدل والاختلاف في وجهات النظر والرغبة في الإقناع، وبرغم ذلك نجدها تسيطر على الحوار في هذه القصص القصيرة الصغيرة وتجعله على النسق البنائي ذاته من التكثيف والسرعة والاختزال الخاطف، وتجعله بعيدا تماما عن أي قدر من الترهل أو التفكك الذي يمكن أن يؤثر سلبيا على إحكام القصص ذاتها، فنجدها في قصة (لعبة) قد جعلت الحوار بين المرأة والرجل الذي يقرأ لها الكف قد جعلت الحوار خاطفا ودالا على المفارقة ومكثفا للخديعة التي هي جوهر هذه اللعبة وكيف يمكن أن تكون القراءة خاطئة والشخصية تدرك هذا جيدا ويأتي حوارها في النهاية كاشفا ويليق بخاتمة أو نهاية صادمة تصنع التحول والمفارقة، إذ قارئ الكف يمارس في البداية نوعا من الاستعلاء المعرفي والمقروءة كفه يكون على النقيض في نوع من الاستسلام والخضوع، والطريف أن يكون هذا الخضوع مزدوجا فهو خضوع للقراءة وللأحداث التي لا يعرفها وخضوع كذلك للقدر الذي يصنع المفاجآت، ثم يأتي التحول بأن تكون الشخصية المقروءة كفها على علم تام ودقيق وتقول في جمل خاطفة وسريعة ما يصوب كل ما مضى ويقلب الحقائق تماما.

وتبدو إيثار غراب متنوعة في الحالات الإنسانية التي تقاربها والمعاني والقيم التي تشكل منها عالمها وتستنتجها منها كذلك في الوقت نفسه، فهي تقارب معاني الوحدة وغياب الحب أو غياب الشريك أو الرفيق وتجسده أو تمثله في أشياء وتفاصيل وجزئيات حياتية مهمة، ومثال ذلك كعكة عيد الميلاد التي تعفنت أو تصلبت وكذلك الشاي الذي برد ولم يعد صالحا للشرب مثل أشياء كثيرة في الحياة تفسد بالوقت أو لكونها لا تأتي في الوقت المناسب. وتعبر كذلك عن حالات من الحب أو العشق والتعلق وتبدو الزاوية التي تقارب منها هذه القصص علاقة الحب وجدلية الرغبة والإقبال والإدبار بين الرجل والمرأة تبدو زاوية على قدر كبير من الثراء والمهم كما ذكرت في البداية أنها تتجاوز التعبير الذاتي إلى الطابع التمثيلي الذي يمنح أشكالا فنية متنوعة ومتعددة ومستقلة عن الذات أو صوت المؤلف بما يشكل منها حالات إنسانية عديدة. ومثال ذلك قصة ابتسامة التي تجعل علاقة الحب والرغبة في حبيبها متجسدة في ملامح وجهه وغمازتيه اللتين تحبهما في الآخرين إذا ما دلتا عليه أو أحالتا إليه أو ذكَّرتاها به. 

ومن الأشياء والقيم البارزة في هذه القصص مقاربتها لأثر الزمن ونتائجه وكيف يكون هذا الأثر عميقا بداخل البشر وكيف أنه يهدم أشياء ويقيم أخرى بداخلهم، فتموت عواطف أو مشاعر وتستجد أخرى، يبقى الحب صحيح قويا وعميقا ومتجاوزا للزمن، لكنه لا يبقى كما هو أو لا يبقى بصورته ذاتها، فهو وإن استمر لكن تحولات عديدة تطاله وتغيره تخفيفا أو عنفا أو برودا أو تحويله إلى ألم وغصة. وتجسد كذلك في قصصها حالات من التوهم أو الضعف أو حالات أقرب إلى المرض النفسي والهواجس والأحلام وتصبح كلها مجسدة في حدث أو حركة أو في حكاية أو إطار تمثيلي وهذا هو المهم لأن في ذلك جوهر الفن السردي وجوهر التشكيل الحكائي وليس في مجرد البوح المباشر بكل هذه الحالات والقيم والأفكار والمشاعر. والحقيقة هي واحدة من أكثر المجموعات القصصية ثراء وحساسية في التعامل مع اللغة بفن وتكثيف وإدراك لجوهر اللغة وطاقاتها وقدراتها التصويرية والاستعارات والمجازات بقدر كبير من التوازن الذي هو أشبه بخلط الألوان والأصباغ وتنسيبها لتكون على قدر الحالة المعبر عنها دون زيادة أو نقص، ووفق مقاييس جمالية صارمة هي في الأصل كامنة في عقلها المبدع.