كان التليفزيون أبيض وأسود، وكان الزمن واضحا بنفس حدة اللونين، وكانت أبلة عفت مدرسة المنطق تسأل بهجت الأباصيري بإصرار: ما هو المنطق؟ انحازت إلى عصابة المشاغبين، وتمنت لهم الانتصار على هذا الصوت العقلاني الذي يسأل عن المنطق، لم يكن انحيازي له أي سبب موضوعي يجعلني أقف مع تشكيلة متنوعة من التلاميذ، ربما عقلي الباطن كان ينتقم من مدرس لي في الإعدادية عندما بدأت موضة الدروس الخصوصية وهو يصر على إلحاق الفصل كله في درس خصوصي لديه، وأنا أكافح في وجهه بعناد.
في هذه اللحظة جاءت سهير البابلي لتعيد للمدرس هيبته وسمو رسالته لتصنع من المشاغبين شخصيات مهمة في المجتمع من خلال العلم والتعليم.
هكذا بقيت الفنانة الكبيرة في خيالي حتى يومنا هذا، إذن البابلي أستاذة قديرة في فصل المشاغبين وفي مهنتها التي عاشت لها وأعطتها كل جهدها لتستقر موهبتها على عرش الخلود، حاولت أن أعتذر عن موقفي الصبياني ضدها في مدرسة المشاغبين ولم أجد طريقة للاعتذار إلا الجلوس متأدبا في حضرتها وهي تقدم شخصيتها الأشهر سكينة في مسرحية ريا وسكينة، القاتلة التي تبحث عن عدل تم حرمانها منه في طفولتها بقهر القبيلة والتخلف لها واغتيال امها.
سهير البابلي ابنة البلد بملامحها التي تفيض شقاوة درامية يمكنها أن تجعلك ابنا للسعادة والبهجة وأنت تتابع المباراة الكوميدية بينها وبين أحمد بدير، ويمكنها أيضا أن تضعك في خانة المفكر المتأمل وأنت تتابع بطولتها أمام الفنان الراحل حسن عابدين في مسرحية على الرصيف، الرسائل الشجاعة المعجونة بالفن والتساؤلات المفتوحة، هذه التشكيلة لا ينجح في إبداعها إلا موهبة في وزن سهير البابلي.
رحلت سهير البابلي وتركت لنا أبلة عفت، وأهدتنا بكيزة هانم الدرملي وعشرات الشخصيات التي ستبقى في وجدان وذاكرة الناس عمرا طويلا ويتوارثها بكل المحبة أجيال قادمة.
ليس من اللائق هنا أن نتكلم عن الأدوار العظيمة التي لعبها فن التمثيل بمصر على مدار عقود طوال في القرن الماضي، لأنها معروفة وواضحة كالشمس بل إننا نعيش الآن على ذكريات مجدها، وفي مناسبة وداع الفنانة الكبيرة سهير البابلي أجد أنه من اللائق أن أشير إلى أن المواهب بشكل عام تزدهر إذا توافقت إرادة الدولة مع ميدان الإبداع، صناعة السينما والمسرح لا تقل في أهميتها عن صناعة الحديد والصلب، وبما إنها صناعة ثقيلة فلابد من رعايتها وحمايتها وتطويرها حتى تعود القاهرة من جديد إلى سيرتها الأولى هوليود الشرق.
الخسارات المتتالية لرموز الفن تضعنا جميعا في مسؤولية كبيرة، وتجعل سؤالنا المؤلم واقعا مريرا.. هل مازال لدينا أمل في حماية المواهب وتطوير الإنتاج الفني ورد الاعتبار لشاشة السينما ؟
عن نفسي أقول أن دوائر الإحباط تضيق يوما بعد يوم ونحن نرى الإسفاف يتعالى صوته وما خناقة هاني شاكر وساويرس حول شطة وبيكا إلا نموذجا لذلك الإسفاف، الحمل ثقيل وأرواح المبدعين الذين رحلوا واخرهم سهير البابلي سوف تحاسبنا إذا فقدنا القدرة على المقاومة والدفاع عن الجمال والقيمة.
لو كنا نؤذن في مالطا لكان البعض قد استمع لنا، لا مطالب شخصية لنا؟ نحلم بأن نطمئن على ذائقة أبناءنا نحلم بمحاصرة التطرف بالإبداع فهل هذا كثير علينا؟
سهير البابلي أبلة عفت.. سنعتذر لك كثيرا لأننا قد ننهزم وتنمو العشوائية طالما الطافحين على سطح الإنتاج الفني مقاولون ولصوص بنوك، سنعتذر لك كثيرا؛ لأن طاقتنا قد تتفد ونسكت بينما يزدهر الانحطاط.
آراء حرة
سهير البابلي.. وداعًا
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق