الصوم الإنجيلى
القس سهيل سعود
إذْا عُدْنا إلى الكتاب المقدس، دستور الإيمان الإنجيلي، فإننا ندرك أن رجالات الله، قد صاموا. وبما أنَّهم قد اختبروا نعمة مُميَّزة فى صومهم، فقد أوصونا بالصَّوم، ولكن ليس كنشاط مُنْفَرِد، فصومهم ارتبط دائمًا بالصلاة. فيُخبرنا الكتاب المقدس أنَّ أولاد الله المؤمنين هدفوا من الصوم والصلاة إلى تحقيق عَدَد من الأهداف الروحية أهمها: النمو فى علاقتهم مع الله، التَّعبير عن توبتهم وتواضُعهم أمامه، التَّوسُّل إليه لمنحهم غفرانه ورحمته بعد فترة مِن التَّمرُّد، طلب إرشاده وتوجيهاته لحياتهم وحياة أولادهم، طلب نعمة وقوة أكبر لإنجاز المُهمَّات الصَّعبة.
إنَّ وصية تلازُم الصوم والصلاة لأهداف روحية كانت وصية الأنبياء والرسل، ووصية المسيح لتلاميذه. يقول البشير متى إنَّ التلاميذ واجَهوا موقِف ومُهمَّة صَعْبتَيْن عندما لَمْ يستطيعوا أنْ يساعدوا أحَد الآباء، الذى أحْضَر إليهم ابْنه المُصاب بداء الصَّرَع ليشفوه فلَم يقدروا، فأحْضره إلى المسيح فشفاه. عندها سأل التلاميذ المسيح على انفراد: «لماذا لَمْ نَقْدر نحن أنْ نشْفيه؟ قال لهم يسوع، لعدم إيمانكم... أمَّا هذا الجِنْس فلا يَخْرج إلاّ بالصَّلاة والصَّوم» «متى 17: 19، 21».
فى حوار جَرىء بَيْن تلاميذ يوحنا المعمدان والمسيح حَوْل موضوع صوم تلاميذه، والذى قد يُعطى انطباعًا بأنَّ تلاميذ المسيح لا يصومون، مَع أنَّهم كانوا يصومون، إذْ علَّم المسيح فى عِظَته على الجَبَل عن الصوم: (ومتى صُمْتُم) «متى16:6».
لقد أتى تلاميذ المعمدان إلى المسيح قائلين: «لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرًا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟ فقال لهم يسوع، هل يستطيع بنو العريس أنْ ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتى أيام حين يُرْفَع العريس عَنْهم حينئذ يصومون». «متى9: 14-17»، والجدير بالذِّكْر أنَّ تلاميذ المعمدان والفريسيين كانوا يصومون كثيرًا فى أوقات حَدَّدها آباؤهم فى التَّقليد، لكن لَم تَفرضها الشريعة، إذْ أنَّ فريضة الصوم الوحيدة التى أوْصى بها الناموس هى صَوْم «يوم الكفَّارة». «لاويين 30:16».
لقد مَيّز المسيح بَيْن مُتَطلِّبات الشريعة ومُتطلِّبات التَّقليد، فحافَظ مع تلاميذه على الصوم المُوصَى به من الشريعة، وأهْمَل عن قَصْد أصوام التَّقليد التى زادَت كثيرًا فى العَدَد حتى صار مِن الضروري، بعد خراب أورشليم، تحديد الأيام التى يُمْنَع فيها الصوم، والمسيح فى إجابةً عن سؤال تلاميذ المعمدان: «هَلْ يستطيع بنو العريس أنْ ينوحوا ما دام العريس معهم؟» لَمْ يقُل لهُم نعم أو لا، بَلْ طرح فى إجابته سؤالًا غير مباشِر مُفاده: «كيف تحكمون بأنَّ تلاميذى لا يصومون وأنتُم لا تعرفون الحقيقة؟ فالحقيقة هى أنَّ التلاميذ لَمْ يصوموا تِلْك الأصوام المُتَعدِّدة غير الإلزامية التى صامَها تلاميذ المعمدان والفرّيسيون، لكنَّهم صاموا صوم يوم الكفَّارة، والأصوام التى احتاجَتها حياتهم الروحية بهدف النموّ فى العلاقة مع الله. وقد شَبّه المسيح حالة عدم صوم تلاميذه آنَذاك، بحالة العُرْس الذى لا يصوم الناس فيه، بَلْ يأكلون مِن أطايب العرس، لكن سينتهى هذا الوَقْت حين يُرْفَع العريس عنهم، حينئذ يصومون».
وبالتالي، تنفيذًا لوصية المسيح، فإنَّ مؤمنى ومؤمنات الكنيسة، صاموا وصلّوا. وقد ظَهَر فى الكنيسة بعض القديسين الذين حدَّدوا أيامًا معينة للصوم، خصوصًا فَتْرة الصوم قَبْل عيد القيامة. فيقول القديس «إيرينيوس» فى هذا الصَّدَد: «يعتقد البعض أنَّ الصوم هو ليوم واحِد، والبعض الآخَر ليومَيْن، وغيرهم لأكثر، وأيضًا يقول البعض لأربعين يومًا». إلاّ أنَّ الذِّكْر الأوَّل لصوم الأربعين يومًا كان فى القرن الرابع الميلادي.
وقد بدأ مفهوم الصوم يأخذ مَنْحى مُخْتلِفًا عن المفهوم الأساسى الذى يعرضه الكتاب المقدس خلال تاريخ الكنيسة، إذْ صار يقترن بالتَّقشُّف والزُّهْد فى الدُّنيا. وقد نَظّمت الكنيسة أيامًا للصوم، فأخَذ الصوم شَكلًا شرعيًا. وفى القرون الوسْطَى ارتبط مفهوم الصوم بمبدأ الاستحقاق أمام الله، فصار يُفْهَم على أنَّه إحدى الوسائل التى مٍن خلالها يسْتَحق الإنسان نعمة الله ويُكَفّر عن خطاياه.
وعندما حلَّ زمن الإصلاح الإنجيلى فى القرن السادس عشر، وجد المُصلحون الإنجيليون أنَّ مفهوم الصوم قد انحرف عن الهَدَف الأساس المُعْلَن فى الكتاب المقدس، فنادوا بضرورة العودة إلى مفهوم الكتاب المقدس والكنيسة الأولى.
إنَّ الموقف الإنجيلى التاريخى المُصْلَح مِن الصوم، سجَّله المُصلحون الإنجيليون فى إقرار الإيمان الهلفيتى الثانى الذى كُتِبَ سنة 1566م وكانَت له السُّلْطة العُليا فى الكنائس الإنجيلية المُصلحة. عَن ضرورة الصوم يَذْكُر إقرار الإيمان: «إنَّ كنيسة المسيح توصينا بالصوم كضرورة فى الوقت الحاضِر بحيث نتَّضِع أمام الله ونَحْرم جسدنا مِن وقوده، لكى يطيع الروح طاعةً أكْبَر وأسْهَل.. إنَّ الصوم عونٌ لصلوات القديسين ولكلّ الفضائل».
وعن دوافع الصوم يُعلن إقرار الإيمان: «كلّ صوم يجِب أنْ ينبَثِق عن روح حُرّة مُريدة، وعن تواضُع أصيل، وليس عن تصنُّع مِن أجْل كسب ثناء البَشَر أو مدحهم. وبالتأكيد، ليس مِن أجل أنْ يستحق الإنسان البرّ بسببه. فليَصُم كلّ إنسان لهذه الغاية بأنْ يَحْرم جسده مِن وقوده لكى يخدم الله بغيرة أكبر».
وعن تحديد أيام مُعيَّنة للصوم «كالصوم الكبير الذى هو فترة الأربعين يومًا التى تسبق عيد القيامة» فيَذْكُر إقرار الإيمان: «إنَّ الصوم الكبير مشهود له عند الأقدمين، إلاّ أنّ لا أثَرَ له فى كتابات الرسل، لذلك لا يجوز ولا يُمكن أنْ يُفْرَض على المؤمنين».
لقد مَيَّز إقرار الإيمان الهلفيتى الثانى بَيْن نوعَيْن مِن الصوم: صوم جماعي وصوم فردي. فذَكُر: «هناك صَوْم علنى وآخَر سِرِّي، لقد مارس الأقْدَمون الصوم العَلنى فى أيام المصائب والمِحَن على الكنيسة، فامْتنعوا تمامًا عَن الطعام والماء، وأمْضوا الليل كلّه فى صلوات مقدَّسة وعبادة الله والتَّوبة. إنَّ صومًا كهذا يمارَس فى الأيام التى تكون فيها الكنيسة فى مِحْنَة. أمَّا الصوم السرِّى فيُمكن لأيٍّ منَّا أنْ يُمارسه كلَّما شَعر أنَّه بعيد عن الروح».
البوابة القبطية
القس سهيل سعود يكتب: الصوم الإنجيلى
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق