كطفل قروي يعيش في نهايات القرن التاسع عشر فقد بصره في سن السادسة، كان المصير التقليدي للفتى طه حسين أن يصير قارئًا للقرآن، لكن يشاء القدر أن يتحوّل مصير الفتى الضرير عام 1908 بعد التحاقه بالجامعة المصرية، والتي شهدت مناقشة أطروحته الأولى للدكتوراه في الآداب عن أديبه المُفضّل أبي العلاء المعري.
من الجامعة المصرية إلى جامعة مونپلييه الفرنسية، حصل طه حسين على الدكتوراه في الاجتماع عن ابن خلدون، ثم دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية، وكان قد اقترن قبلها بعامين بفتاة فرنسية هي سوزان، والتي كانت لها أثر ضخم في حياته. وبعد عودته، صار "الدكتور طه" أستاذ التاريخ اليوناني والروماني ثم أستاذ لتاريخ الأدب العربي؛ وما لبث أن أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة، وتم اتهامه بنقل أفكار المستشرق الإنجليزي مرجليوث، والتي صدرت في كتاب قبيل إصدار كتابه بنفس الأفكار، حيث أسهم في الانتقال بمناهج البحث الأدبي والتاريخي نقلة كبيرة فيما يتصل بتأكيد حرية العقل الجامعي في الاجتهاد؛ بينما أحيل بسببه للمحاكمة متهمًا بالتعدي على الدين الإسلامي.
ففي العشرينات من القرن الماضي، واجه عميد الأدب العربي اتهامًا خطيرًا تمثل في الادعاء بازدراء الدين الإسلامي، وهي الشائعة التي وجدت موضعًا لدى مجموعة من مشايخ الأزهر الشريف، حتى صار الجدال قضية رأي عام، استدعت الإحالة للنيابة العمومية. بعد عدة بلاغات تفيد كلها بأن الدكتور طه حسين قد تعدى بكتابه على الدين الإسلامي، أولها بتاريخ 30 مايو 1926 من الشيخ خليل حسين الطالب بالقسم العالي بالأزهر، والذي اتهمه بأنه ألف كتابًا اسماه "في الشعر الجاهلي" ونشره على الجمهور "وفي الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي".
وفي 5 يونيو من العام نفسه، أرسل شيخ الأزهر خطابًا يبلغ به تقريرًا رفعه علماء الأزهر عن كتاب طه حسين "الذي كذّب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين"، وطلب تقديم طه حسين للمحاكمة؛ وفي 14 سبتمبر تقدم عبد الحميد البنان أفندي عضو مجلس النواب ببلاغ آخر ذكر فيه "أن الأستاذ طه حسين نشر ووزع وعرض للبيع كتابًا طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي".
وأجمل محمد بك نور رئيس نيابة مصر الاتهامات الموجهة ضد طه حسين في أربعة نقاط، أنه أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل، وأنه طعن على النبي صلى الله عليه وسلم من حيث نسبه، وما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها، والرابعة أنه أنكر أن للإسلام أولوية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم؛ وقد حقق طويلًا مع طه حسين، وجادله، ثم قرر حفظ القضية رغم اختلافه مع ما جاء في الكتاب ومع طه حسين.
وفي الأربعينات، عندما كان اسمه لامعًا في الأوساط الأكاديمية المصرية والفرنسية، وصار نموذجًا وقدوة لكل من يرغب في التنوير، واجه اتهامًا خطيرًا في أحد الظروف الحالكة التي مرت بها المنطقة. فلم تكد الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، حتى بدأت الجماعات الصهيونية الاستيطانية تُثبت أقدامها في أرض فلسطين، وفي ذلك الوقت العصيب، تم اتهام طه حسين بمحاباة الحركة الصهيونية، عندما أصدر مجلة "الكاتب المصري" في أكتوبر عام 1945 بتمويل من شركة تملكها أسرة هراري اليهودية المصرية، وهي شركة تحمل اسم الكاتب المصري، وكانت متخصصة في الطباعة وبيع الآلات الكاتبة وأجهزة تصوير المستندات وغيرها.
وبعد أن صدرت هذه المجلة بدأت حرب الإشاعات القاسية ضد طه حسين ومجلته، وأخذ المنافسون الذين يحسدونه على ما وصل إليه من مكانة في المجتمع والأدب يشنون عليه حملات تتهمه بأنه يصدر مجلته بأموال الصهيونية التي ابتلعت فلسطين وتريد أن يكون لها دعاة في مصر وأجهزة إعلام تدافع عنها وتساند آراءها ومواقفها المختلفة؛ وتوقفت المجلة في شهر مايو 1948، وهو الشهر الذي شهد اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.
كذلك دافع الدكتور طه حسين عن قصيدة النثر أمام الشعر المرسل، ووصفه بأنه "لا بأس به إذا ارتقى إلى درجة الشعر إذا كان فيه الموسيقى والصور الشعرية الكافية لنسميه شعرًا، وقال إنه من حق الأدباء أن يكتبوا شعرًا مرسلًا متى شاءوا، بشرط أن يصلوا إلى درجة الشعر، ولم أنكر حق الشعراء في أن يغيروا أوزان الشعر، وأن يتركوا الأوزان القديمة إلى الشعر المرسل أو المنثور كما يقولون عنه".
ما قاله عميد الأدب العربي اتفق مع ما كتبته سوزان برنارد في كتابها الأشهر "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" الصادر بالفرنسية في نهاية الخمسينيات، والذي ذكرت فيه قواعد قصيدة النثر، ومنها التحرر من نظام العروض، ما قرّب المسافة الفاصلة بين الخطابين النثري والشعري؛ على عكس الهجوم الذي لاقته قصيدة النثر بعد ذلك بعقود من العديد من الشعراء منهم أحمد عبد المعطي حجازي، والذي وصف قصيدة النثر بأنها "نص وحيد الخلية"، مُشبهًا إياها بكائن الأميبا.
ظل عميد الأدب العربي يُثير عواصف التجديد من حوله في مؤلفاته ومتخذًا مواقف صارمة من أهل السياسة، ما أدى إلى طرده من الجامعة، لكنه عاد إليها بعد سقوط حكومة إسماعيل صدقي باشا، وتم تعيينه وزيرًا للمعارف في حكومة الوفد عام 1950، فوجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير "التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن"؛ وكانت تلك آخر المهام الحكومية التي تولاها، حيث انصرف بعد ذلك حتى وفاته عام 1973 إلى الإنتاج الفكري والنشاط في العديد من المجامع العلمية التي كان عضوًا بها من داخل وخارج مصر.