غايتي من كتابة هذا المقال والتذكير بهؤلاء الأكارم الذين عبدوا الله تعالى حبا فيه، غايتي، التذكير بمناقب ومآثر هؤلاء ومنهم السيدة رابعة، وكيف كان زهدها في هذه الدنيا، لماذا؟! لما رأيناه من انغماس الناس انغماسا كاملا في الشهوات، وانقيادهم إليها ولهاثهم خلفها قلبا وقالبا، إلا من رحم ربي.
نحن لا نرفض الدنيا ولا نطالب بالزهد المطلق والتقشف التام، ولا نحرم ما أحله الله من متع الحياة، ولكن ما نرفضه هو المغالاة في الاستمتاع والغرق في الشهوات التي تقود الإنسان إلي الوقوع في براثن الرذيلة.
وإن ما ندعو إليه هو التوسط والاعتدال؛ لأن عدم الوسطية يقود إلى اختلال كفة الميزان.
هي رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية مولاة آل عتيك التقية النقية الزاهدة العابدة الصالحة الناسكة التي سلكت مسلك الزهد حبا في الله وترك الدنيا بما فيها على ما فيها ذاهبة إلى ربها ليهديها.
فقد سادت نزعة الزهد في مدرسة البصرة وأخذ الزهد، وترك الأغيار والاتجاه بالكلية إلى رب الأغيار مسلكين: المسلك الأول، مثله الحسن البصري الذي تمثل الزهد رهبة وخوفا من الله تعالى وخوفا من عذابه فانقطع إلى العبادة.
والمسلك الآخر، الذي سلكته رابعة مسلك الزهد لا خوفا من العذاب ولا طمعا في ثواب وإنما حبا منزها حبا لا تشوبه شائبة غرض ولا مأرب اللهم إلا حب التنزيه والتقديس للذات السرمدية.
التقت سفيان الثوري فقالت له: إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب بعضك ويوشك، إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعمل.
وقد لقيها سفيان ذات يوم وقد ساءت حالتها فعاتبها فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي؟! ألست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه والأنس الذي لا وحشة معه، والله لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها؟!
وكانت دوما تعاتب نفسها وتلومها قائلة: يا نفس كم تنامين وإلى كم تقومين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلى صرخة البعث.
أقفلت باب الدنيا والأمور الحسية، وذلك لتحقيق المعنى الحقيقي للعبودية في نظرها-والناس فيما يعشقون مذاهب- وهو ما يتضح في طبيعة اندماجها الروحي والوجداني من خلال الحب الإلهي الذي شكل ظاهرة واضحة في أشعارها.
حبيبي لا يعادله حبيب** وما لسواه في قلبي نصيب.
حبيب غاب عن بصري**وشخصي ولكن عن فؤادي لا يغيب.
فالعلاقة بينها وبين حبيبها علاقة روحية علاقة تجرد لذا كانت حينما يجن عليها ليلها تناجيه قائلة: إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة حبي إليك..فأنشدت قائلة:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي**وأبحت جسمي من أراد جلوسي.
فالجسم مني للجليس مؤانس**وحبيب قلبي في فؤادي أنيسي.
واتخذت الخلوة سبيلا لها للوصول إلي بغية المشتاق والعروج إلى الجناب، بل ووجدت راحتها النفسية فيها
راحتي يا أخوتي في خلوتي**وحبيبي دائما في حضرتي.
لم أجد عن هواه عوضا**وهوانا في البرايا ضمني.
يا طبيب القلب يا كل المني**جد بوصلك منك يشفي مهجتي
يا سروري وحياتي دائما**نشأتي منك أيضا نشوتي.
قد هجرت الخلق جميعا ارتجي**منك وصلا فهو أقصى منيتي.
وحين سألها سفيان عن حقيقة إيمانها، كانت المحبة هي التعبير، ما عبدته خوفا من ناره، ولا حبا في جنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حبا له وشوقا إليه.
أحبك حبين حب الهوى**وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى**فشغلي بذكرك عمن سواك.
وأما الذي أنت أهل له **فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولاذاك لي**ولكن لك الحمد في ذا وذاكا.
ويعتقد أنها ربما أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ الدنيا، وقيل أن معنى حب الهوى هو أنها رأت محبوبها فأحبته عن مشاهدة اليقين.
إنها رابعة العدوية التي أفنت عمرها في طاعة الله فمنحها الله تعالى الرضا والحظوة والقبول وأفاض عليها من أنوار وإشراقات محبته ففاقت الخلق في دين وفي خلق، فجاد عليها أبا الجود والكرم فغرقت في بحور المشاهدات الربانية وظلت على هذه الحال حتى لبت نداء ربها وأسلمت روحها راضية مرضية.
فتوفيت سنة 185ھ ودفنت بظاهر القدس من شرقيه على ظهر جبل يسمى الطور.
هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، هؤلاء الذين تحقق فيهم قول الله تعالى: "لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون".
رضي الله عن رابعة العدوية أم الخير ورضي الله عن الصالحين الذين أنعم الله عليهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
سلام على رابعة في الأولين وفي الآخرين، وسلام على كل أوليائه الصالحين. جزاكم الله خيرًا أهل الحب والإخلاص، وأحسن إليكم.
آراء حرة
فيوضات الرحمن ومؤانسة الحسان.. رابعة العدوية وتجليات الحب الإلهي (100ه _185)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق