لم أكن أتخيل حينما شرعت فى كتابة مقالى هذا أن كل الأفكار التى وضعتها وكل المعلومات التى كنت أود أن أسردها ستتغير هذا التغيير، فقد كنت أنوي أن أتحدث عن دور جمعيات المجتمع المدنى فى نبذ العنف والتطرف عن طريق الفن، وكنت قد اخترت جمعية النهضة العلمية والثقافية جزويت القاهرة لما لها من باع طويل وتاريخ مشرف فى هذا المجال، ولكن بعد ما أنهيت مقالي، حدثت فاجعة هى بالنسبة لى فاجعة كبرى، صدمة لم أكن أتوقعها، ففى لمح البصر شب حريق فى مسرح الجزويت أتى عليه بالكامل، لم يعد فيه مكان نستطيع النظر إليه، هذا المكان الذى طالما كان شعاعًا للنور، وكان مصدرًا للبهجة، مسرح الجزويت كان قديمًا ستوديو ناصيبيان ثانى أقدم ستوديو سينمائى فى مصر، مؤسسه كان رئيس الجالية الأرمينية «هرانت ناصيبيان» الذى باعه بعد ثورة 23 يوليو مباشرة وهاجر من مصر، وكان يؤجر على مدى سنوات طويلة إلى أن اشترته الرهبنة اليسوعية وجمعية النهضة العلمية والثقافية- جيزويت القاهرة، وكان للأب وليم سيدهم اليسوعى رؤية أن يظل المكان يحمل عبق التاريخ، ولكن بتقدم وجمال الحاضر، وأن يكون مساحة متاحة للفرق المُهمشة وللفنانين الذين لا يجدون متنفسًا لهم، والأب وليم هو راهب يسوعى آمن أن الفن طريق يمهد إلى الجمال والى الرقى وأن الشباب هم المستقبل وما نزرعه فيهم يبقى ويثمر، ففتح قلبه وذراعه لهم واستقبل منهم أفكارهم وأحلامهم ورؤياهم وساعدهم على تحقيق أحلامهم وذاتهم وساعدهم للخروج بفنهم خارج أسوار الجمعية، وانطلقوا إلى العمل العام، فمنهم من أصبح فنانا فى التمثيل أو الإخراج أو المونتاج، جمعية النهضة العلمية والثقافية والتى لها باع كبير فى تنشئة المبدعين ومساعدتهم على الخروج من النفق المظلم وخلق نقاط تلاقٍ مع الجميع دون تمييز فهى مساحة يستطيع فيها المسلم والمسيحي، شباب وشابات وكبار سن، إيجاد نقاط مشتركة وحلم مشترك يعملون جميعًا لتحقيقه دون الدخول فى معتقدات أو مناقشة بعضهم عما يؤمنون، فكل منهم يحترم الآخر ويقبله ويحترم معتقده، فداخل هذه الجمعية توجد عدة مدارس يجد فيها الشباب ما يحتاجونه، مدرسة لتعليم السينما من خلال دراسات أكاديمية ومدربين على أعلى مستوى، فقد تخرجت 11 دفعة منها والآن الدفعة 12 تكمل دراساتها، وإيمانا من الأب وليم بأهمية التعاون مع أجهزة الدولة فقد تم عقد بروتوكول مع نقابة المهن السينمائية لمنح عضوية منتسب لخريجى هذه مدرسة سينما الجزويت ليصبح لهم الحق فى العمل بشكل رسمى، ويتم هذا أيضا فى مدرسة الرسوم المتحركة أو المسرح، جمعية النهضة هى مساحة يتحرك فيها الشباب بكامل حريتهم، مساحة يتخلصون فيها من ضغط المؤثرات الخارجية والتعاليم المضللة لطاقة نور وإبداع يسبحون بخيالهم فيبدعون ويخرجون ثانية لعالمهم وهم ممتلئون بالطاقة الإيجابية وهم مهذبو المشاعر مرهفو الحس، يبحثون عن الجمال حتى فى أقبح الصور، يؤمنون أن أقرب عبادة إلى قلب الله هى الإيمان بالجمال والإبداع والعمل على عدم اندثاره.
إن حريق المسرح ليس حريقا لجدران، لكن لمساحة فن وحرية وإبداع، ومنذ انتشار هذا الخبر تسارع أبناء المسرح الذين وجدوا فيه أداة نور وتمكين وطريق لتحقيق ذاتهم وأحلامهم بالدعوات بعودة هذا الصرح إلى ما كان عليه وأحسن، وأنا أثق أن للفن رجالًا يحمونه ويقفون على وجوده، فالفن هو طريقنا لنبذ العنف والتطرف والإرهاب والأفكار المضللة، الفن هو المساحة الوحيدة التى يلتقى فيها الجميع وعيونهم معلقة على هدف واحد ونجاح واحد.
وما يعطينى هذه الثقة، هو وجود الأب وليم سيدهم اليسوعى الذى تواجد بمكان الحريق لا ليندب حظه، فقد كان منذ عدة أسابيع يناشد محبي وأصدقاء جمعية النهضة لمساعدتها على الاستمرارية الآن هو يرى دمارا وخرابا، ورغم ذلك أخذ يشد من أزرنا ويقوى من عزيمتنا ويشجعنا حتى نقوم ونبنى البيوت الخربة، ونعيد تاريخ هذا المكان العريق بأيدينا وأيادى أصدقائنا وأيادى محبي الفن.
البوابة القبطية
هناء ثروت تكتب: حتى وإن احترق
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق