الموضوعية عند الحكم على الأشخاص والأحداث التاريخية تعنى استخدام الحقيقة المجردة والبعيدة عن الهوى عند تقييم تلك الأحداث، وفق تاريخ حدوثها والتفاعلات الداخلية والخارجية المؤثرة فيها. الحكم الموضوعى يجب أن يستند إلى المعلومات الصحيحة والشهادات الموثقة، ولذا عند غياب الشفافية والنزاهة فى تدوين المعلومات والسجلات الحقيقية، يكون من الصعب إصدار الأحكام الصحيحة. الموضوعية تشبه علوم الرياضيات والفيزياء، ولذا فهى قابلة للملاحظة والقياس، ويمكن حصرها ووصفها وإثباتها بطرق إحصائية. لذا فإن الحكم الموضوعى يقدم الحقيقة كما هى، ويخلو من الآراء الشخصية والتأثيرات المجتمعية، ويكون فعالًا فى صنع القرار العقلانى الذى يحترمه الآخرون من الأصدقاء والأعداء على السواء.
أما الأحكام الشخصية فيتدخل فيها الآراء والأفكار والمشاعر الشخصية، والموروثات الثقافية فى تلوين الصورة، وفى الحكم على الأشياء. ولذا يتحكم فيها الآراء الشخصية والعواطف والمصالح والنعرات القومية، وهى أشبه ماتكون بالعلوم البيولوجية التى تتفاعل فيها عدة عوامل مثل الظروف السياسية والدينية والاجتماعية والعرقية، ولذا تصدر تلك الأحكام معبرة عن وجهة نظر المتحدث وجماعته وتوجهاته، وفى الغالب ما تكون أحكامًا منحازة لطرف على حساب طرف، وتكون متغيرة بتغير الظروف المحيطة، ولا تُمَثِل رأيا علميا ثابتا يمكن الاستناد إليه أو الاستفادة منه.
وفى غير قليل من الأحيان، يكون من الصعب أو من المستحيل الحكم بموضوعية على الأشياء فى وجود معاصريها، ولذا يلزم مرور بعض الوقت (من ٢٥-٥٠ سنة) قبل تسجيل الأحداث التاريخية. وهذا فى حد ذاته عيبًا خطيرًا فى معرفة الحقائق المجردة، لأن معظم من عايشوها أو شاركوا فيها ربما يكونون قد اختفوا من المشهد أو رحلوا عن دنيانا، ولذا فمن الصعب أن يكون التاريخ صحيحًا ١٠٠٪. وهنا يظهر ضرورة التسجيل الدقيق للأحداث وقت وقوعها، والإفراج عنها بعد فترة، قد تطول أو تقصر حسب حساسيتها، لتكون متاحة للدراسة والتدقيق وإصدار الأحكام الموضوعية.
للأسف الشديد، معظم من كتبوا تاريخ المنطقة العربية فى القرن الماضى وقعوا بشكل أو بآخر تحت تأثير الذاتية والشخصنة، ولذا جاءت الكتابة إما بيضاء (فى صالح الأشخاص والتاريخ) وإما سوداء (ضد الأشخاص والتاريخ)، وفى كلتا الحالتين ضاعت الحقائق وتاه الجيل الحالى فى الحصول على الحكم الموضوعى الذى ينير لهم الطريق ويفسر لهم الأحداث ويهديهم إلى المستقبل.
اللافت للنظر عند قراءة تاريخ منطقتنا العربية، أن هناك قدرا كبيرا من عدم المرونة عند المناقشة، وعدم تقبل الرأى الآخر، وفى الكثير من الأحيان ينتهى الحديث برفض الآخر، وأحيانا بتكفيره وإهدار دمه.
الأمثلة على ما أقول كثيرة ومتعددة، ويمكن ملاحظتها بسهولة عند مناقشة أى موضوع تاريخى، أو قراءة التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعى، أو عند مشاهدة حلقة من البرامج الحوارية فى التليفزيون. وأعطى هنا ثلاثة أمثلة شاهدتها خلال شهر أكتوبر ٢٠٢١.
أولا: بمناسبة الاحتفال بانتصارات أكتوبر المجيدة، وجدت القليل جدا فى البرامج الإذاعية والتليفزيونية التى تتحدث عن الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك قائد سلاح الطيران فى حرب أكتوبر وأحد أبطال النصر. كان الحديث عن الضربة الجوية والرئيس مبارك من أهم سمات هذه الاحتفالات طوال فترة حكم الرئيس الأسبق، ولكن منذ سقوط نظامه فى ٢٠١١، سقطت معه كل أحاديث الإشادة بهذا البطل المغوار وإسهاماته الكبيرة فى تحقيق النصر. وهذا التلون فى عرض الحقائق من سمات تحكيم الأهواء الشخصية على الحقائق الموضوعية فى الحكم على بطل شهد بشجاعته وحنكته كل من كتب عن دور سلاح الطيران فى حرب أكتوبر.
ثانيا: عند الحديث عن الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، ظهر التباين الواضح بين آراء من يؤيدونه ومن يعارضون سياساته. وللانصاف كان حديث الرئيس عبد الفتاح السيسى عن شجاعة وتقديم مبادرة السلام التى قام بها الرئيس السادات هى أهم سمات احتفالات شهر أكتوبر لهذا العام.
ثالثا: الحكم على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لاحظت أن هناك فصيلا من الشعب المصرى يكره هذا الزعيم الوطنى المخلص الذى خدم وطنه وحارب الاستعمار وقاد حركات التحرر فى كل دول العالم الثالث. وعلى النقيض كان دفاع الناصريين عن زعيمهم متشنجا وعصبيًا وبعيدا عن الموضوعية.
فى الأمثلة الثلاثة السابق ذكرها، ضاع الحكم الموضوعى وظهرت الآراء الشخصية حسب أهواء أصحابها. التقييم الموضوعى للشخصيات التاريخية لا بد أن يراعى الظروف التاريخية التى وقعت فيها، ولابد أن يكون متوازنًا بين عرض المزايا ونقد العيوب. وفوق كل هذا وذاك لا بد أن يبتعد التقييم الموضوعى عن دائرة الحب والكره، والمعتقد الدينى، والموروث الشعبى، وهى أشياء للأسف الشديد مازالت غير متوفرة فى معظم الأحيان.