وصف المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد سيرته الذاتية التي كتبها تحت عنوان "خارج المكان" أنها "سجل لعالم مفقود أو منسي منذ عدة سنوات"، مشيرا إلى اتباعه طريقة صريحة في الكتابة عن الذات، ونادرة في تراثنا، والذي رفضها أحد الكتاب العرب في عبارة ذكرها المفكر وهي "هذا نوع من الأسرار التي لا تُقال إلا للطبيب الشخصي النفساني".
سعيد، الذي تحل ذكرى ميلاده في أول نوفمبر، والمولد في القدس عام 1935 لأبوين من أصول مختلطة فلسطينية وأمريكية ولبنانية، انتبه لكتابة مذكراته الذاتية بعد تشخيص حالته الصحية واتضاح إصابته بمرض سرطان الدم، فخضع لثلاث جلسات من العلاج الكيمائي، ثم انطلق في موجة من الذكريات ساعدته في كتابة سيرته والتي بدأها في مايو العام 1994.
اكتشف "سعيد" أهمية كتابة سيرته حينما لعبت ذاكرته دورا حاسمًا في تمكينه من المقاومة خلال فترات العلاج والقلق الموهِنة، ففي كل مرة يلجأ لمتابعة كتابة هذه الذكريات فإنها دائما ما كانت تمده بالتماسك والانضباط الممتعين.
انتهى إدوارد سعيد من مخطوط سيرته الذاتية، في العام 1988، ثم قام برحلة إلى القدس ليكتشف أن شبكة من البلدات والقرى عاش فيها أبناء عائلته الكبيرة: القدس وحيفا وطبريا والناصرة وعكا، وما أحزنه أنها صارت كلها مطارح تقع تحت السيادة الإسرائيلية، لكن عائلته بالكامل تعيش بالمنفى بعد جلائها مع حلول ربيع العام 1948، وما أثار حزنه أكثر هو سؤال الموظف الإسرائيلي: هل لديك أقارب هنا؟ فقال: لا أحد.. حيث امتلكه شعور بالحزن والخسران. وكلها عوامل أكدت له ضرورة أن يسجل سيرته.
يسرد "سعيد" في مقدمة سيرته التي ترجمها فواز طرابلسي، أنه التقى في زيارته إلى مصر في العام 1988 بأحد الأفراد الذين عملوا لدى أسرته لمدة طويلة، هذا الرجل اسمه "أحمد حامد" ويتمتع بذاكرة عنيدة وقوية، وكان اللقاء معه هو الدافع القوي لتسجيل سيرته أيضا.
يقول "سعيد": قبل الغداء أبلغتني نادية "جارة قديمة لعائلته" أنه يوجد شخص ينتظرني في المطبخ، فهل أرغب في لقائه؟ دلف إلى الغرفة رجل صغير نحيل وصلب العود يرتدى الثوب الداكن واللفة، وهما اللباس التقليدي للفلاح الصعيدي. وعندما قالت له المرأتان إن هذا هو إدوارد الذي كنت تنتظر رؤيته بفارغ الصبر. تراجع مطأطأ رأسه: لا، كان إدوارد طويلا ويضع نظارتين، هذا ليس إدوارد. وبسرعة تعرفت إلى أحمد حامد، فهو رجل ساخر ومتزمت في صدقه وإخلاصه وكنا جميعا نعتبره بمنزلة فرد من أفراد العائلة، حاولت إقناعه بأني أنا إدوارد حقا ولكن بدلني المرض والعمر بعد غياب 38 سنة. فجأة وقع كل منا في حضن الآخر نجهش بدموع الفرح للقاء المتجدد والحزن على زمن لن يستعاد.
وأعجب سعيد بذاكرة الرجل، فقد أفرغ الماضي الذي في داخله، فيقول "سعيد": أدركت مجددا مدى هشاشة وقيمة وزوالية التاريخ والظروف التي تمضي إلى غير رجعة ولا تجد من يستعيدها ويدونها، اللهم إلا على شكل ذكريات عرضية أو أحاديث متقطعة.