لا يزال حديثنا موصول حول سير الأعلام المجاهدين، الذين تمثلوا قول الله تعالي (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، رجال اخلصوا أعمالهم جميعها لله تعالي فاستعملهم لطاعته، وبلغوا الحظوة والقبول من الله تعالي فنالوا إحسانه وأنعم الله عليهم بمنازل العارفين السائرين السالكين إليه، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، فرضي الله عنهم أجمعين.
وحقيق علينا ونحن نتدارس سيرتهم أن نقتفي أثرهم ونسلك مسالكهم ونقتدي بهم في أفعالنا واقوالنا وعبادتنا ومعاملاتنا مع الآخرين.
ذو النون المصرى هو:ثوبان بن إبراهيم، لقبه ذو النون، والمكني بأبي الفيض.
رجل من أبرز رجالات القرن الثالث الهجري الذي شهد بدايات النظرية الصوفية وتحول الزهد إلي تصوف.
ولد بمدينة أخميم بصعيد مصر- بلدي وأفتخر-عام 179ه..
حفظ القرآن الكريم في صغره، برع في علوم الحديث والفقه.
كما برع في علوم الكيمياء التي تتلمذ فيها علي يدي جابر بن حيان، كما برع في الطب وعلوم الفلك.
مما يروي عنه أنه سبق شامبليون في فك رموز اللغة القديمة الهيروغليفية، أو ما عرفت بالابجدية الهيروغليفية.
من أشهر تلاميذه سهل التستري، أبو اليزيد البسطامي.
تأثر به الخراز أبو سعيد المكني بقمر الصوفية، وأبو عمرو الدمشقي.
يذكره القشيري قائلا: أنه أول من عرف التوحيد بالمعني الصوفي، وأول من وضع تعريفات للمصطلحات الصوفية، الوجد، السماع، الأحوال والمقامات.
وشأنه كشأن البارعين الناجحين في كل زمان ومكان، تعرض للوشاية به من أقرانه، عند الخليفة المتوكل واتهموه بالزندقة، وأنه أتي بعلم جديد لم يتحدث عنه الصحابة، يقصدوا مقولاته الصوفية، مما جعل الخليفة يستدعيه ولما دخل عليه اجلسه وسأله عن بعض أمور الدين والفقه، بكي الخليفة بكاءا شديدا، ورده إلي مصر مكرما معززا-هذا هو حال رجال الله الذين اخلصوا لله، الذين خافوا من الله فهابهم كل شيئ حتي الملوك والأمراء والخلفاء.
توفي في مدينة الجيزة عام 245ه، ودفن في مقابر أهل المعافر، وروي أن الطيور الخضر ظلت ترفرف علي جنازته حتي وضع في قبره.
عرفانه الصوفي:
من أقواله في المحبة محبة الله تعالي:(من علامات المحب لله عز وجل،متابعة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله واوامره وسننه.)، أنظروا بعين المحبة، أليس هذا عملا وامتثالا لقول الله تعالي (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)، أليست المحبة لله وفي الله وبالله طريق للوصول إلي رضوانه تعالي.
ويقول أيضا، ألا إن حب الله عز وأمل، وحب غير الله خزي وخجل.فمحبة الله تعالي كانت شغله الشاغل.
ومن حكمه،لا تسكن الحكمة معدة ملئت طعاما، يقصد لا تسرف في مأكلك ومشربك حتي تستطيع أن تروض نفسك وتدربها علي الطاعة وتصل إلي غاية المرام.
أنشد في المحبة قائلا
حبك قد أرقني* وزاد قلبي سقما.
كتمته في القلب*والأحشا حتي انكتما.
لاتهتك ستري الذي*ألبستني تكرما.
ويقول.
لك في قلبي المكان المصون*كل لوم علي فيك يهون.
ويقول.
من ذاق طعم الوداد*أنس برب العباد.
شواهد أهل الحب باد دليلها*بأعلام صدق ما يضل سبيلها.
نخلص من أقواله في المحبة، إلي أنه يري أن ثمة حبا متبادلا بين العبد المحب وبين الرب المحبوب، وأن هذا الحب من شأنه أن يصل بالمريد إلي درجة الاستغراق بالكلية في المحبوب فلا يري الاه، ويري أن من تحقق به هذا الحب ألا يتحدث عنه، أو يبوح بشيئ من أسراره لمن لايعرفون من الحب ألا معناه المادي الحسي.
معالم الطريق إلي الله تعالي. مدار الكلام عنده في كيفية الوصول إلي العرفان والتحقق بالله تعالي والوصول إلي معرفته، يقول:عروج الروح إلي عالم المحبة يكون عن طريق أربعة أمور هي:حب الخليل، بغض القليل،اتباع التنزيل، حذف التحويل.حب الخليل الصاحب الخل الوفي الذي يأخذ بيدك إلي النجاة.
بغض القليل من الأعمال والاكثار منها ولا نستعظم عملا قمنا به طاعة لله فإن ذلك مدعاة إلي الغرور والعجب، وذلك يقود إلي إحباط العمل.
واتباع التنزيل أي العمل والاستمساك بالكتاب والسنة.
وحذف التحويل، أي البعد عن كل ما يحول بين المرء وقلبه وجعل قلبك معلق دوما بالله، وحذف كل ما يبعدك عنه تعالي وعدم الالتفات إليه.
قوله في التوبة:التوبة عنده توبتان، توبة العوام، وهي توبة من الذنوب، وتوبة الخواص، رجال الله، هي توبة من غفلة القلب عن الذكر لله تعالي،والذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
قوله في المعرفة، عرفت ربي بربي ولولا ربي ماعرفت ربي، فمن الذي دلني عليك إلهي،لولا أنت ماعرفت أن ثم إله، لولا أنت ما وصلت الي عين اليقين وحق اليقين.
والمعرفة عنده علي ضروب ثلاثة هي:معرفة العوام البسطاء، ومعرفة المتكلمين والفلاسفة، التي تقوم علي العقل، وهو يري أنها معارف ظنية. ومعرفة خواص الأولياء الذين يعرفون الله بقلوبهم وهذه معرفة يقينية لمن، لمن سلك الطريق وتابع السير وأكمل المسير.
هذا قليل من كثير سيدي يا ولي الله يا أبا الفيض، سحائب رحمات ربي تغشاك.
يا سيداتي وسادتي ليتنا نتأسي بهؤلاء الأخيار من خلال مدارسة سيرتهم العطرة، علنا نتحرر من براثن الشهوة وقيود الجسد لنحلق بأرواحنا إلي عالم أفضل عالم الطهر والنقاء والصفاء.
أولئك الذين صدق فيهم قوله تعالي (ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون)
(أولئك الذين هدي الله فبهداهم أقتده)
فهل اقتدينا لنهتدي.