خاض المفكر الكبير الراحل السيد يس رحلة طويلة مفعمة بالحياة. بدأت في مثل هذا اليوم عام 1933 في حي راغب باشا، وهو أحد أحياء الإسكندرية الفقيرة، وامتلأت بالكثير من القراءات والمساهمات الفكرية البارزة. ليس فقط في كأكاديمي رصين، بل كان واحدًا ممن ساهموا في إعداد أجيال تعي ما حولها من متناقضات وأخطار تحيط بهذا الوقت في فتراته الحالكة. حتى صار شيخ مشايخ علم الاجتماع السياسي في مصر
وأسهمت أوراق المفكر الراحل الإستراتيجية، لفترة طويلة، في صناعة الثقافة وصياغة المجتمع المصري. وكانر موقعه كمدير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية منذ منتصف السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين يُعتبر مكانة أكبر من الوزراء والسياسيين. فقد كان يعد الخطط والصياغات التي تقوم عليها الحكومات المتعاقبة فيما يخص الخطاب الثقافي وبنيته في المجتمع المصري؛ ليترك لنا إرثًا من الأساس الصلب الذي تعلو طبقات بناءه يومًا بعد الآخر.
كان ولع السيد يس المبكر بالأدب هو مدخله إلى عالم الفكر الذي جذبه طيلة حياته. فقد اهتم بكتابات الشاعر الأمريكي "ت. س. إيليوت"، وكان واحدًا من مجموعة من محبى الأدب كانوا يجتمعون في منزله بالحي السكندري لمناقشة الكثير من الأعمال الأدبية. هكذا تحول الاهتمام إلى شغف، ثم بدأ هو نفسه في كتابة مجموعة من الخواطر والتأملات.
وفي عام 1950 انحرف مسار الشاب الباحث دومًا عن المعرفة إلى مسار لم يكن متوقعًا، عندما انضم إلى جماعة الإخوان -التي لم يكن قد مضى على اغتيال مؤسسها سوى عامين- لكنها في الوقت نفسه كانت فرصة مكنّته من الإطلاع على جانب لم يطلع عليه كثيرون ممن خاضوا المعترك الفكري نفسه، حيث درس بعناية القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وطالع عدد هائل من كتابات الإسلاميين المعاصرين، منهم أبي الحسن الندوي، والشيخ الغزالي.
في تلك الفترة، تعرّف الشاب النهم للفكر على معلم أزهرى ضرير، واللذان سرعان ما نمت صداقتهما حتى صار قارئه، فقرأ كل المقررات الأزهرية، ثم تخرج من مدرسة الدعاة خطيبًا معتمدًا، وبدأ فى ممارسة الخطابة في الإسكندرية.
ومن خلال تعدد قراءاته وفهمه الصحيح للفلسفة الإسلامية وبداية نضوجه الفكري، بدأ السيد ياسين في الاختلاف مع جماعة الإخوان. وقضى بقية حياته مُحاربًا لأفكارها السامة عبر كتاباته، مُظهرًا تناقضاتها وهشاشتها الفكرية، وفاضحًا لتاريخها الدموي الذى اختبره بنفسه في الفترة الصغيرة التي قضاها بين أفرادها، وقد شهدت فترة التسعينات والعقدين الأول والثاني من الألفية الثالثة مقالات مُتعددة كان يحذر فيها من خطر الفكر الإخواني الذي عرفه ودرسه.
في تلك الفترة كان السيد ياسين قد التحق بكلية الحقوق بعد أن نجح بمعجزة فى الثانوية العامة، والتي خلال دراسته بها اكتشف العالم الثري لعميد الأدب العربي طه حسين، وكذلك تأثر بكتابات الدكتور حسن صادق المرصفاوي أستاذ القانون الجنائي، والذي تعرف من خلاله على أصول البحث العلمي، وساعده في كتابة أول بحث له تم توزيعه على جمعية الأبحاث الجنائية.
لم يكن الشاب الذي التحق بكلية الحقوق -في واقع الأمر- ميالًا للانخراط في سلك القضاء أو المحاماة، لذا فقد سعد للغاية عندما أعلن المعهد القومي للبحوث عن حاجته إلى باحثين من خريجي كليات الحقوق والآداب، لذلك فقد أسرع بتقديم أوراقه. واستطاع اجتياز الإختبارات ليحصل على المركز الأول من بين ثلاثمائة متقدم لهذه الاختبارات. كان مصيره قد تحدد ليرتبط بالمركز الذي سيمضي فيه ثمانية عشر عامًا مليئة بالبحث والفكر.
رغم هذا كان قد سافر إلى فرنسا لإعداد رسالة الدكتوراه فى القانون، لكنه بعد عام ونصف من الدراسة قد أصابه الملل من القانون وتعقيداته، بينما وجد نفسه راغبًا فى دراسة علم الاجتماع، وهو العلم الذي روى كثيرًا أنه جذبه بشدة، فبدأ رحلته الطويلة فى علم الاجتماع السياسى.
تزامنت عودة الباحث المخضرم إلى القاهرة مع حالة من الانكسار شهدها الوطن في أعقاب احتلال شبه جزيرة سيناء من العدو الإسرائيلي في عام 1967. وقتها، كان يتجول بين المصريين ليجد نظرات الخيبة وآلام الهزيمة، لكن عقله كان يدور في اتجاه آخر، كان يعلم المصريين لكنه لم يكن يعرف الكثير عن أعدائهم، لذلك قرر دراسة المجتمع الإسرائيلي؛ فالتحق بالعمل في معهد الدراسات الفلسطينية والصهيونية بجريدة الأهرام في العام التالي للهزيمة 1968 -وهو المعهد الذي تحوّل عام 1975 إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- وتولى رئاسته منذ تأسيسه وحتى عام 1994.
بعد عقود في مركز الأهرام للدراسات ترك السيد ياسين موقعه ليتفرغ للعمل بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ، وفي عام 2012 أعاد تأسيس "المركز العربي للبحوث والدراسات" بالتعاون مع الكاتب الصحفي عبد الرحيم علي، وضم إليه مجموعة من الخبراء في الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الاجتماع وعلوم الإعلام والتاريخ وأصدر عددًا من المؤلفات الهامة فى علم الاجتماع، من بينها "أسس البحث الاجتماعي"، "دراسات في السلوك الإجرامي"، "الشخصية العربية بين تصور الذات ومفهوم الآخر"، "مصر بين الأزمة والنهضة"، "تحليل مفهوم الفكر القومي"، "السياسة الجنائية المعاصرة"، وغيرها من الأعمال الفكرية الهامة التي مهدت الطريق لأجيال أخرى من الباحثين في علوم الاجتماع والسياسة؛ وخلال تلك المسيرة الطويلة نال العديد من الجوائز والأوسمة، من بينها وسام الاستحقاق الأردنى من الطبقة الأولى عام 1992، ووسام العلوم والفنون والآداب عام 1995، وجائزة أفضل كتاب في مجال الفكر من معرض القاهرة الدولى للكتاب 1995، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة عام 1996 ، وفي 1996، منحته الدولة جائزتها التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ إضافة إلى ذلك كان عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة، واستمرت مقالاته لعقود في جريدة الأهرام بشكل أسبوعي، وبالطبع مجموعة أخرى من الصحف؛ واستمر المفكر الكبير في العطاء حتى صباح يوم التاسع عشر من مارس عام 2017، حين رحل عن عالمنا بعد رحلة طويلة مليئة بالعطاء.