فى مدرسة الدبلوماسية المصرية سيدات استطعن تولى مناصب عليا من السفارة إلى الوزارة. لكن يبقى مرور بعضهن على باريس محطة تشكل دوما علامة فارقة فى سجل حياتهن المهنية إما «لبرستيج» العاصمة الفرنسية فى ذاكرتنا الجماعية، وإما لأن لدى السيدة من المواهب الشخصية والحضور الطاغى والطموح فى فرض صورة عصرية للمرأة المصرية فى المجتمع الفرنسي. من هؤلاء السفيرة القديرة نيفين سميكة.
تنحدر السفيرة من أسرة سميكة باشا، مؤسس المتحف القبطى، بينما ينحدر زوجها الصديق الوفدى الكبير محمود أباظة من الأسرة الأباظية.
كانت تركيبة نيفين سميكة الارستقراطية الفرانكوفونية مغلفة بطبقة رقيقة من «حس أولاد البلد». كانت تحضر ندوات ومؤتمرات باريس فى أناقة لافتة، لكن غير متكلفة لتسبغ عليها على الفور روحا مصرية.
حولت نيفين سميكة القنصلية المصرية فى باريس إلى صالون أدبى كبير وملتقى لكبار الشخصيات الفرنسية فى كل المجالات، ولم تعد القنصلية شباكا للحصول على تأشيرة سفر أو شهادة ميلاد وإنما-بالإضافة إلى ذلك- آلة دبلوماسية لخدمة قضايا الوطن فى الخارج بشكل ناعم، وهكذا أعطت السفيرة لتعبير «Soft power» شكلا عمليا وفتحت الباب أمام سيدات أخريات سيتولين بعدها منصب القنصل العام. كانت السفيرة تهوى اقتناء ما نسميه بالفرنسية «les beaux livres».
وهى تلك الكتب المصورة بالقطع الكبير، وتكون فى الغالب كتالوجات للمعارض الكبرى، ويعتبر الكتاب ذاته متحفا صغيرا، وكانت تتفنن فى تحويل هذه الكتب إلى تحف فنية تتصدر صالونها وتتباهى به كما يتباهى الآخرون باللوحات الفنية الثمينة، وكانت تشجع زائريها على تناول الكتاب والخوض فى موضوعه، وكم كان هذا ثريا فكريا وجماليا.
وإذا كانت مائدة وزير خارجية نابليون الداهية تاليران تدرس كأحد أهم أسلحة الدبلوماسية فإن مائدة نيفين سميكة العامرة بالطعام المصرى الأصيل فى أفخم «سرفيس» أصبح حديث باريس، وأذكر أنها أقامت حفل استقبال للراحل الكبير أسامة الباز وجمعت حوله كتاب ومثقفين فرنسيين. ترك الرجل ما لذ وطاب ليتناول بضع شرائح من الجزر.
رأيت القلق فى عين السفيرة، وقال لى رئيس تحرير «لوموند» ذى الأصول المصرية «روبير سوليه»: «على السفيرة أن تحمد الله أن الباز يأكل عندها الجزر لأنه عند آخرين يكتفى بكوب ماء».
أصبحت نيفين سميكة سفيرة كبيرة فى عواصم أخرى لعل أهمها الفاتيكان، لكنها تركت فى باريس ليس فقط ذكرى طيبة، ولكن تركت أسلوبا فى العمل الدبلوماسى ساعدها عليه تفاهمها الذكى مع سفير مصر آنئذ على ماهر، وهو تفاهم محمود لم يستطع من خلفهما- فى السفارة كما فى القنصلية- فى أغلب الأحيان الحفاظ عليه.