كنا في قريتي التي نشأت فيها لا نعرف عن وسائل التسلية والترفيه إلا جلسة المصطبة التي يتسامر فيها الكبار ويتضاحكون حول تفاصيل حياتهم اليومية أو يتبادلون الشكوى من الظروف الصعبة التي يمرون بها، أما الذين لا يحبون المصطبة وجلسات السمر الجماعية فكانوا يلجأون إما للراديو أو التليفزيون الذي كانت تغلق معظم قنواته بحلول منتصف الليل وحتى السادسة صباحًا.
وكنا أيضا إذا حضر أحد أبناء بلدتي الموت نمتنع جميعا عن جميع أساليب الترفيه تقديرا لحزن أقربائنا وجيراننا فكان صوت الراديو أو التليفزيون لا يسمع أحيانا حتى يبلغ الميت أربعين.
وتخفت الضحكات حتى في جلسات السمر التي لم يكن يتبق لنا غيرها لتمضية بعض الأمسيات.
أما صوت الأغاني أو الموسيقى وطبول الفرح تحديدا فكانت تكاد لا تسمع لشهور.
كل هذا كان منبعه التقدير فقط ومشاركة الجيران أحزانهم حتى وإن لم يكونوا أقرباء لنا.
اليوم أصبح للتقدير معان أخرى. فعندما نطالع مواقع التواصل الاجتماعي تجد حالة من الشيزوفرينيا أو الانفصام أصابت تقريبا جميع مستخدمي تلك المواقع. حيث يجد المستخدمون أنفسهم أمام حالات مختلفة ومتضاربة من المشاعر حيث يصبحون مضطرين إلى التعبير عن فرحتهم ومباركاتهم عند مطالعتهم لبعض المنشورات السعيدة أحيانا وحزنهم وتعازيهم عند مطالعة منشورات محزنة أحيانا أخرى. ثم تجدهم في ذات الوقت يشاركون صورا باسمة ولينكات لأغاني أو مقاطع أضحكتهم.
يحدث ذلك تقريبا لكل شخص في كل مرة يدخل فيها إلى مواقع التواصل فهذا تزوج وهذا طلق وهذا رزق بمولود وهذا توفي وذلك التحق بوظيفة جديدة وذينك فصل أو استقال من عمله... وغير ذلك من الأحداث المتناقضة التي تقع في تزامن مستمر.
تدخل الى الموقع فتطالع خبر وفاة أحدهم فتشاطره أحزانه وتعزيه ثم تجد بعدها مباشرة منشورا سعيدا لأحدهم لا تعرف ماذا تفعل؛ هل تعبر له عن سعادتك البالغة لما حققه من نجاح أو ما أصابه من خير؟ أو أن تحرج من ذلك أمام تعبيرك السابق عن الحزن البالغ الذي أصابك لمصاب صديق آخر فتؤجل المباركة إلى وقت آخر لتشعر باتساقك مع نفسك؟ لتجد أحدهم يعاتبك وبأسى شديد على تأخرك في المباركة أو التهنئة.
وأمام هذا وذاك تجد نفسك مضطرا معظم الوقت أن تعيش حالة من الشيزوفرينيا، تبارك لهذا وتواسي هذا، تهنئ هذا وتعزي هذا.... حالة من المشاعر الافتراضية كما هي حالة من الصداقات والعلاقات الافتراضية غير الحقيقية. ولا نعرف إلى أين تأخذنا التكنولوجيا أبعد من هذا. حمى الله مصر من كل سوء ورد عنها كيد الكائدين