يحتفل المسلمون كل عام في مثل هذه الأيام بذكرى مولد القطب الصوفي الشهير سيدي ابراهيم الدسوقي قدس الله سره الشريف.
هذا الولي الكبير الذي تربع على عرش الولاية المحمدية بعد أن تحقق بأعلى مراتب ودرجات الكمال البشري تشريعا وتحقيقا.
لم يعش الدسوقي كثيرا من العمر بل عاش ٤٣ سنة وهي في مقياس الزمن لا شيء أو بمعنى أدق فترة ليست كبيرة ولكنه استطاع رغم قصر ما عاش أن يضيف إلى مضبطة الإسلام بصفة عامة والتصوف بصفة خاصة أسمى آيات السمو والإشراق الروحي والمعرفي.
حيث أثرى الساحة الفكرية بكثير من المناقب والخصال التي لا تفنى مع مرور الزمن.
كثيرون من الناس يعيشون دهرا طويلا ولكن قليلون من يؤثرون فيمن حولهم في حياتهم وبعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى.
كان مترجمنا واحدا من هؤلاء الأعلام الذين عاشوا حياتهم على الأرض في سلام نسبي، وكأن السماء اختارت لهم هذا الخلود الأبدي، من خلال قبابهم المشرقة بمحيا أجسادهم الطاهرة، فعاشوا في قلوب محبيهم جيلا بعد جيل، فتلتف حول أضرحتهم الشامخة قلوب المحبين لجنابهم الشريف.
لم يك التفاف العامة والخاصة حولهم رجما بالغيب، أو عادة لا يدركون حقيقتها، بل عناية ربانية، وهبة إلهية للباحثين عن الحقيقة في دنيا الناس.
فهو السيد/إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد ولد عام 653هـ، الموافق 1255م، بمدينة دسوق وينسب إليها.
ينتهي نسبه من جهة أبيه للإمام الحسين بن على بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم.
كان الولي الكبير سيدي محمد بن هارون حين يرى والد سيدي ابراهيم الدسوقي مارا من أمام خلوته ينهض واقفا ويقرر: "إن في صلبه وليا يبلغ صيته المشرق والمغرب" ولم يكن السيد عبد العزيز المكنى بأبي المجد قد تزوج بعد!
حفظ رضي الله عنه القرآن الكريم وتفقه على مذهب الإمام الشافعي وعشق الخلوة منذ صغره ودخلها للتعبد وهو ابن٣سنوات وخرج منها لمريديه وهو ابن ٢٣ سنة وسطع نجمه في العلوم والمعارف وانتشرت طريقته حتى وصل صيته إلى كل أرجاء البلاد، منذ أن ترك الخلوة وتفرغ لتلاميذه.
أصدر السلطان الظاهر بيبرس البندقداري أمرًا بتعيينه شيخًا للإسلام فقبل المنصب وقام بمهمته، وكان يهب راتبه من هذه الوظيفة لفقراء المسلمين، كما قرر السلطان بناء زاوية يلتقي فيها الشيخ بمريديه يعلمهم ويفقههم في أصول دينهم، وهى مكان مسجده الحالي، وظل الدسوقي يشغل منصب شيخ الإسلام حتى توفى السلطان بيبرس، ثم اعتذر عنه ليتفرغ لتلاميذه ومريديه.
حدث صِدام بين الدسوقي والملك الأشرف خليل بن قلاوون بعد توليه حكم مصر، حيث وشى الوشاة بالدسوقي عند السلطان، وأغروه بقتله حتى لا يُحدِث فتنة في البلاد، فبدأوا بإرسال طرد عبارة عن شهد مسموم كهدية من السلطان للدسوقي، فتسلم الدسوقي الهدية ثم جمع فقراء المدينة، وقال لهم: «هذا شهد إن شاء الله تعالى، كُلوه ولا مبالاة بإذن الله». فأكله الفقراء ولم يؤثر في أحد.
وكثرت الشائعات وأصبحت المسألة مسألة تتعلق بكرامة السلطان وهيبته التي أصبحت في الميزان، فإما أن يقتل الشيخ أو يذله على الأقل، وإما أن يعترف بأنه أقل من أن يخضع أحد رعاياه لسلطانه.
وأرسل السلطان وفدًا من قبله ومعهم سَبَّاع يرافقه سبع يلقي إليه من يغضب عليهم السلطان، ولما وصلوا إلى دسوق وعلموا بأمر الأمير، قصدوا خلوة الشيخ، فلما اقتربوا من خلوته خرج لهم الدسوقي، فهاج الأسد وقطع الطوق من رقبته وذهب شطره، فخشي عليه مريدوه، فطمأنهم قائلًا: «إنه لا يفترس إلا الغافل».
وجرت أمور بعد ذلك علم منها السلطان أنه وقع في حبائل الوشاة، ورأى السلطان إنه من الأفضل أن يسافر إلى دسوق ليتعذر للدسوقي عما حدث، ثم عرض عليه ما شاء من العقار والمال، فرفض أن يطلب شيئًا لنفسه، وطلب من السلطان أن يترك نصف جزيرة الرحمانية المواجهة لدسوق للفقراء ينفقون منها على مصالحهم، فوافق.
وهذه كرامة كبيرة والكرامة هي أمر خارق للعادة يظهره الله على يد عبد ظاهر الصلاح وهي ثابته بنص الكتاب والسنة حتى أن ناظم الخريدة على شرح جوهرة التوحيد أنشد:
وأثبتن للأولياء كرامة
ومن نفاها فانبذن كلامه
لقبه محبوه ببرهان الدين وأبا العينين "عين الشريعة وعين الحقيقة"، وكانت له صلات وثيقة بالسيد أحمد البدوي وتبادلا الرسائل بواسطة مريديهم.
حتى أنه بعد اللقاء الذي جمعه بالقطب الكبير سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه قال عنه:
"إن ابن العم السيد البدوي هو الأسد الكاظم".
ثم أنشد قائلا:
نلنا المنى والفضل تم
كل الأولياء تبع والسيد عم
ويقصد بالسيد هنا سيدي أحمد البدوي حيث من ألقابه "السيد".
لما شعر بدنو أجله، أرسل نقيبه إلى أخيه "أبى العمران شرف الدين موسى" الذي كان يقطن جامع الفيلة بالقاهرة، فأمره أن يبلغه السلام، ويسأله أن يطهر باطنه قبل ظاهره.
وذهب النقيب إلى موسى شقيق الدسوقي، ودخل عليه المسجد وهو يقرأ على طلابه كتاب الطهارة، فأخبره النقيب برسالة أخيه، فلما سمعها، طوى الكتاب وسافر إلى دسوق، فلما وصل وجد أخيه تُوفي وهو ساجد، وكان ذلك عام 696 هـ الموافق 1296 م على أرجح الأقوال، وتوفي وله من العمر 43 عامًا.
وقد دُفن الدسوقي بمدينة دسوق محل مولده، والتي لم يغادرها في حياته إلا مراتٍ معدودة، وأقام أهل المدينة بعد ذلك على ضريحه زاوية صغيرة، وتوسعت شيئًا فشيئًا فتحولت الزاوية إلى مسجد من أكبر مساجد مصر، والذي يُعرف حاليًا بمسجد سيدي إبراهيم الدسوقي ويزوره سنويًا أكثر من 5 مليون زائر من شتى دول العالم.
وصل اللهم وسلم وبارك على حضرة سيدنا ومولانا محمد النور الذاتي والسر الساري في سائر الأسماء والصفات وعلى آله وصحبه أجمعين.