علمني أستاذي الدكتور حسن حنفي، أن الإسلام واحد، لكنه متعدد المذاهب والأسماء، وأن القرآن الكريم حمَّال أوجه على حد قول سيدنا علي بن أبي طالب (ر)، الذي ينسبون إليه قوله لابن عباس (ر): "لا تحاجهم بالقرآن فإنه حمال ذو وجوه"، وفي صيغة أخرى: "فاحملوه على أحسن وجوهه"، رواه الدارقطني.
لكن حتى لو كان العكس صحيحًا، وكنا نحن الذين نُحَمِّل القرآن هذه الوجوه" فإن الحقيقة الوحيدة التي يمكننا أن نجتمع عليها جميعًا هي أن هناك وجوهًا للإسلام منذ عصور التحكيم والخوارج والخلافات الأموية والعباسية حتى عصور رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وحسن البنا وآية الله الخميني، ولا ننسى محمد بن عبد الوهاب والدعوة السلفية.
كل ما أريد أن أقوله في بداية تقديمي لأستاذي الدكتور حسن حنفي: هو أن الفقهاء والمفسرين والحكماء على مر التاريخ تعاملوا مع القرآن، وبالتالي مع الإسلام وفقًا لمناهج التأويل، ولم يكن حسن حنفي إلا امتدادًا لسابقيه في علم أصول الفقه والدين، وهذا ما يبدو واضحًا لكل من لا يغض النظر عن موضوع رسالتيه لنيل درجة دكتوراه الدولة اللتين قضى في إعدادهما عشر سنوات كاملة في جامعة السوربون، كانت الأولى تحت عنوان: "مناهج التأويل: دراسة في علم أصول الفقه".
Les Méthodes d'exégèse: essai sur la science des fondements de la compréhension، ʿIlm Usūl al-Fiqh
أما الرسالة الثانية فكان عنوانها هو: "فقه علم الظاهريات (الفينومينولوجا): حالة المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته على الظاهرة الدينية".
L'exégèse de la phénoménologie: l'état actuelle de la méthode phénoménologique et son application au phénomène religieux
في هذا الصدد أعتقد أنني في دراسة أخرى سوف أتناول المناخ الديني في مصر في العقود الأخيرة والذي للأسف سمح بتكفير الدكتور حسن حنفي من قبل العديد من رجال الدين لأطرح السؤال المؤسف التالي: لماذا بعد أربعين سنة عاد حسن حنفي لهاتين الرسالتين وقرر بنفسه أن يئد أصول الفقه ويحجب العناوين؟! عند نشر الكتابين باللغة العربية تحت هذين العنوانين الغريبين ("تأويل الظاهريات" و"ظاهريات التأويل"). الحق إن العنوانين يحجبان منذ صفحة الغلاف الأولى حقيقة أن الموضوع لم يكن في الفلسفة الفينومينولوجية إلا من حيث كونها أداة منهجية لتأويل النص الديني. وأن جوهر الرسالة كان البحث عن تجديد علم أصول الفقه باستخدام المنهج الفينومينولوجي (لدى هوسرل على وجه الخصوص) وهو المنهج الذي تلقاه في مصر أولًا على يد أستاذه العظيم عثمان أمين.
الحق أنني لا أرى أستاذي الدكتور حسن حنفي إلا وفقًا لمنظور معقد يجمع من ناحية: بين "الأصولية" ليس بمعناها المذهبي الشائع، ولكن بمعناها الأكاديمي التأصيلي التجديدي لتكريس مجتمع إسلامي جديد. ومن ناحية أخرى: بين مناهج التأويل في الفكر الديني الأوربي الحديث، وكل هذا عبر منظار إسلامي يساري، يجمع فيه بين عدسات آية الله الخميني الذي ترجم بعض أعماله إلى العربية والفيلسوف الإسلامي الإيراني علي شريعتي وعدسات لاهوت التحرير وجيفارا في أمريكا اللاتينية ومارتن لوثر في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان حسن حنفي يروج لدعوته تحت عنوان اليسار الإسلامي من إندونيسيا إلى أمريكا اللاتينية.
ولم يكن ذلك غريبًا، فلقد كان يسير على نهج كل المجددين أيًا كانت اختياراتهم الاشتراكية أو الليبرالية أو التقليدية المحافظة أيضًا، فالكل يختار ما يعتقد أنه "أحسن وجوه الإسلام".
ومن الجدير بنا -كي نبين ذلك- أن نعود عامين قبل ثورة 1919 لنجد رؤية إسلامية إصلاحية اشتراكية لم ينتظر صاحبها "أمير الشعراء" الحركة الاشتراكية العربية الناصرية ليعلنها في همزيته النبوية بقوله:
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
الاشتراكيون أنت أمامهم لولا دعاوي القوم والغلواء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق الحياة سواء
أود أن أقول: إن نموذج ومنحى حسن حنفي في التفسير والتأويل يشبه في خطوطه العريضة (بالطبع ليس في التفاصيل) نماذج عبقرية سابقة، بعضها شديد التعقيد. لا ينبغي أن نغض النظر عن قراءتها واستخلاص دروسها فيما يتعلق بتاريخ التقاء الأصالة الإسلامية والمعاصرة الغربية، كرفاعة الطهطاوي وشيخ الإسلام محمد عبده وعميد الأدب العربي طه حسين على سبيل المثال.
وحتى أكون أكثر وضوحًا هنا فأنا أستعين بما قاله لي الدكتور حسن حنفي من أنه عندما قدم إلى فرنسا كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، فبناء على هذه المعلومة عن انتمائه الإسلامي حين قدم إلى أوروبا. يمكنني أن أحدد وجهًا من وجوه التشابه ـ في بداية حياته العلمية في فرنسا ـ بينه وبين الأزهريين الثلاثة. مما يسمح لي بالقول الجريء التالي:
إن حسن حنفي كسابقيه لم يخرج ولو لحظة واحدة عن أصول الفكر والتفكير الإسلامي مهما بدت في أعماله وأقواله الملامح اليسارية والعلمانية والنضالية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
فكما ذكرت من قبل: “إذا كان القرآن ليس حمال وجوه، فنحن بالتأكيد حمالو هذه الوجوه”، وهذا باختصار شديد ما تقوله الفينومينولوجية الهوسرلية التي تؤكد على اختلاف معاني النص باختلاف قرائه.
فكل منا يبحث عن ما يعتقد أنه الوجه الأحسن الذي يتفق مع جوهر الإسلام ويتفق أيضًا مع ضرورات العصر.
ومن الضروري أن نؤكد أرتباط ذلك كله في الفقه الإسلامي بمعضلة "تكافؤ الأدلة في التفسير والتأويل"، والتي حلها فقهاء السنة بقولهم: "عند تكافؤ الأدلة على الفقيه أن يأخذ بما هو أحسن".
انكب حسن حنفي في فرنسا على دراسة الفقه المسيحي أو الفلسفة الدينية المسيحية. وعلى وجه الخصوص لدى القديس أوغسطين والقديس توما الإكويني ومن بعدهم الفلسفة الدينية لدى اسبينوزا الذي تَرجَم إلى العربية كتابه الشهير: "رسالة في اللاهوت والسياسة".
استوعب حسن حنفي مناهج الفقه الغربي وأراد أن يقدم صيغة عصرية لعلم أصول الدين بالاستعانة بمنهج التفسير والتأويل الفينومينولوجي السابق الذكر.
فمن يكلف نفسه عناء البحث والتدقيق سيجد أن الرؤية الفقهية التأصيلية كانت هي الرؤية المحورية في فكره، لا الفلسفة الغربية التي انتهى إلى انتقادها في كتابه الشهير: “مقدمة في علم الاستغراب”، مؤكدًا صراحة أنه يقدم بديلًا إسلاميًا يتجاوز ثنائيات الفلسفة الغربية، ومبشرًا بنهضة إسلامية جديدة لا تخلو بين السطور من من معاني أستاذية العالم الإخوانية القطبية التي انطبعت في عقله ووجدانه في سنين شبابه بجامعة القاهرة.
ولعل هذا الطابع الفقهي الديني لدى حسن حنفي هو الذي دفعني لاختيار عنوان هذا التأبين وهو: "الفقه في الصغر كالنقش على الحجر".
كان أستاذي في حواراته (كلما زار فرنسا) مع الفيلسوف الفرنسي الكاثوليكي جان جيتون في منزله بالقرب من مجلس الشيوخ وحديقة لوكسمبورج، يتناول دائمًا قضايا التفسير والتأويل في الفكر الديني. أما جان جيتون فكان يحدثه عن ما يسميه "مذاهب المتطرفين في تطهير الدين".
ولم يخرج عن ذلك في لقاءاته الباريسية سواء مع الفيلسوف الإسلامي العظيم إبراهيم مدكور، أو مع الصديق الحميم الدكتور محمد أركون وغيره من المفكرين. كان شغله الشاغل هو إشكاليات فقه التأصيل والتأويل. أما الفلسفة الوحيدة التي كان يتحدث عنها بعقله ووجدانه معًا. فكانت الفينومينولوجيا. التي اتخذها أداة منهجية (لا مذهبية) وسلاحاَ لتفكيك وإعادة بناء الفكر الإسلامي.
نعم، كان الإسلام هو الركن والمحور المركزي في فلسفة الدكتور حسن حنفي.
ومن الإشارات واللمحات السريعة التي تؤكد ذلك: تحمسه للثورة الخمينية، ومن قبله: تحمسه للمفكر الإسلامي الإيراني المقتول علي شريعتي وجهوده في الترويج لأفكارهما في مصر والعالم الإسلامي ! وكان ذلك عبر رؤية تقدمية يسارية تتفق مع المناخ العالمي السائد آنذاك. الذي تبنى فيه الكثير من الفلاسفة الغربيين اليساريين والثوريين ومنهم ميشيل فوكوه الثورة الخمينية وروجوا لها والذي في مقالاته بصحيفة “كورييرا دو لا سيرا” الإيطالية وجد في الثورة الإسلامية بديلًا حيًا عن الثورة البولشيفية.
الآن أسمح لنفسي بذكر بعض وقائع خبرتي الشخصية، ومنها ذلك اليوم المشهود الذي عقد فيه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ندوة لمناقشة ما كتبته عام 1994 تحت عنوان نظرية "الإسلام والعهد الدهري".
اختلف أستاذي مع الدكتور حسين عبد القادر والدكتور محمود العزب وعارض تأييدهما لدراستي. ثم تبادل الانتقادات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي امتدح "جهودي في بناء سردية إسلامية جديدة".
انتقدني أستاذي نقدًا لاذعًا يفوق نقد الفيلسوف اليساري محمود أمين العالم. واستنكر لجوئي للدين من أجل إعادة التأسيس للنهضة العربية الإسلامية. كنت أسمي هذه النهضة بالإنتصاب الحضاري الجديد. تأسيسًا على ما أسميته بالميثاق أو "بالعهد الدهري المقدس".
شعرت وقتها بالظلم؛ إذ كان ينتقد الأسس الدينية التي بنيت عليها نظريتي. بينما كنت أعتقد أنه أول من سيساندني. ويثلج صدري بالاعتراف بأنني كنت "تلميذه النجيب".
بصراحة شعرت أنه لم يتحمل أن يقول تلميذه ما كان من المنطقي والطبيعي أن يقوله هو. وليس أدل على صدق إحساسي من الواقعة التالية:
كان بين الحضور أستاذ إسمه الدكتور أحمد عبد الله، طلب مني أن نلتقي للحوار في اليوم التالي. فوافقت. لكنه اتصل بي بعد ذلك ليحدد الموعد بعد منتصف الليل ! فلما سألته عن السبب. أخبرني أن بعض الإخوان سيصلون بالقطار من الإسكندرية في ذلك الوقت ! اتصلت بحسن حنفي لأستشيره. فما كان منه إلا أن قال لي : هذه ضريبة نشر أفكارك ! لا تخشى شيئًا سوف أحضر أنا أيضًا هذا اللقاء.
دون الدخول في التفاصيل. أستطيع أن أقول: إن موقف حسن حنفي تغير تمامًا. إذ كان يجيب على أسئلتهم بدلًا مني. ويشرح أفكاري أفضل مني. حتى أن الدكتور أحمد عبد الله اعترض وقال له: إحنا جايين نسمع أسامة، فما كان منه إلا أن غضب وذهب وتركني وحدي مع مجموعة الإخوان.
نعم، كان أستاذي الدكتور حسن حنفي فقيهًا مجددًا للفكر الديني في العالم الإسلامي على غرار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، لكنه كان مضطرًا أن يعتمد ـ كمدخل إلى ذلك ـ مناهج التأويل في الفلسفات الغربية الحديثة.
انشغل حسن حنفي بالأحداث وسيطرت عليه الوقائع، فضلًا عن جهوده في نقل بعض الأعمال الفلسفية إلى اللغة العربية على أمل أن نتمكن يومًا من استيعابها وإعادة إنتاجها في حواراتنا العامة والمتخصصة.
فإذا أضفنا إلى ذلك التناثر في الجهود، المناخ السلفي المعادي الذي أشرنا إليه، وإذا أضفنا أيضًا ظاهرة طغيان الخطاب العام الشائع في الإعلام وفي الندوات الفكرية العربية والإسلامية. ربما يمكننا بناءً على ذلك كله أن ندرك مقدار مأساة الفقيه الفيلسوف الذي غطت الأحداث والاهتمامات العامة على بحوثه الفقهية الأصولية الأكاديمية.
هنا تحضرني جلسة في منزله "البيت العربي" بمدينة نصر، وفيها كان يحدثني عن حلمه بتجديد الفكر الإسلامي، فزل لسانه وقال: "أنا شافعي العصر الحديث، أنا غزالي العصر الحديث".
نعم يا أستاذي الجليل، ربما يقيض الله لأمتنا من يستطيع أن يستوعب أفكارك الأصولية الأكاديمية ويتبناها ليعيد إنتاجها من أجل تأسيس حضاري جديد يجمع في مواجهة تحديات الواقع بين الأصالة والمعاصرة.