في العام 1947 أصدر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، كتابه المهم "الفتنة الكبرى" بهدف إعادة قراءة وقائع الأزمة التي تعرض المسلمون لها في نهاية عصر الخلفاء الراشدين، وقد عصفت بالخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، والخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
عميد الأدب، الذي تحل ذكرى رحيله في الثامن والعشرين من أكتوبر الجاري، ترك عددا مهمًا من المؤلفات التي اعتمدت على عصري صدر الإسلام والراشدين، لكنه نوَّع خطابه وأسلوبه في التعامل مع قضايا التاريخ الإسلامي بين طريقتين مختلفتين: الأولى طريقة عقلية منهجية واعية تمثلت في مناقشة القضايا والأفكار بهدف إعادة تنقيح التراث والتثبت منه ومعالجة الإشكاليات الكبرى فيه، حتى لا يستمر البناء التاريخي عندنا قائمًا على الأكاذيب والمجهولات، وهذا ما نجده في كتب مثل "في الشعر الجاهلي" وكتاب "الفتنة الكبرى" وكتاب "مرآة الإسلام".
أما الطريقة الثانية فاهتمت بالتراث من جانبه الحكائي الإنساني، أي جمع الروايات والأخبار وتقديمها بأسلوب أدبي راق بعيدا عن تعثر اللغة القديمة، وعن الأخبار المطولة، والأسانيد المرهقة، ومن نوعية هذا الكتب: "على هامش السيرة" و"الوعد الحق".
في الجزء الأول من "الفتنة الكبرى"، والذي تناول فيه الفتنة التي أدت لمقتل الخليفة الثالث -عثمان رضي الله عنه- بدأ طه حسين حديثه ببيان سيرة الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، موضحًا أن القاعدة الأساسية في الحكم لديهما هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا.
وأكد عميد الأدب أن اختيار الفاروق لـ6 من خيار الصحابة وهم: على بن أبي طالب، عثمان بن عفان، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص، عبدالرحمن بن عوف؛ ليستقروا على خليفة من بينهم في غضون ثلاثة أيام. كانت طريقة فريدة من الفاروق وكانت تمهيدا لبناء نظام برلماني وديمقراطي يسبق منظري السياسية في العصر الحديث، كما أكد أنه لو أتيح لعمر بن الخطاب أن يبقى بعد الطعنة مدة لاستطاع أن يطور نظام المشورة الذي وضعه بصورة مرضية للغاية.
يقول طه حسين: ولو قد وسَّع عمر مجلس الشورى وأكثر فيه من أمثال عبد لله بن عمر من أولئك الذين يحضرون الشورى ويشاركون فيها ولا يكون لهم من الأمر شيء؛ لكان من الممكن ألا يتعرض مجلس الشورى لما تعرض له من الشك والاختلاف، وأكاد أعتقد أن الخير قد كان يكون لو تصور عمر مجلس الشورى لا على أنه مجلس مؤلف من المرشحين أيهم انتخب فهو خليفة، بل على أنه مجلس مؤلف من المشيرين الذين تعرض عليهم أسماء هؤلاء الستة ليختاروا من بينهم رجلًا يستخلفونه.
ويصل عميد الأدب لفترة ذي النورين، مستعرضًا لأول أزمة وقفت أمام "عثمان"، والتي اعتبرها أزمة كبيرة كادت تعصف بخلافته، وكانت كفيلة بمحو خلافته لولا أنه تعامل معها بحكمة شديدة. موضحًا أنه بعد مقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قام ابنه عبيد الله بن عمر بقتل ثلاثة ظن أنهم اشتركوا في قتل أبيه وهم "الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة"، فلما تولى "عثمان" الخلافة وجد أنه أمام قضية صعبة، فلا بد أن يقتص لأبرياء قتلوا، وكانت أمامه عدة خيارات من بينها قتل عبيد الله؛ ولكن الناس قالت: يُقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم.
يقول طه حسين: إن عثمان كان ولي أمر المسلمين، وله بحكم هذه الولاية أن يعفو، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدٍّا من حدود لله ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه، وإنما أدى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده، ولكن هذا النحو من العفو لا يخلو مما يريب المتشددين في الدين؛ فعبيد لله لم يعاقب على شيء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حين أدى الدية من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبيد لله، ثم فرض عليه وعلى أسرته دية القتلى؛ لأقام الحد في غير ريبة، ولما
استطاع أحد أن ينكر من قضائه شيئًا، ولو أنه إذ أدى الدية من ماله رفقًا بآل الخطاب أمسك عبيد لله في السجن تعزيرًا له وتأديبًا، حتى يتوب إلى لله من إثمه، ويندم على إراقة الدم في غير حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفيظة الجاهلية — لو قد فعل ذلك لكان له مخرج من هذا الحرج.
وتطرق لعدد من الأزمات التي واجهها "عثمان" بحكمة وشجاعة، وسرد وقائع الأزمة التي جرت بين الخليفة الثالث والصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، التي أدت إلى شرخ كبير في العلاقة بينهما استمر حتى لحظة وفاة الأخير. كما تحدث عن سيرة أبي ذر الغفاري ومذهبه الاجتماعي ونقده الدائم للتبذير، كما عرض لخلافه مع الخليفة ثم توجيهه للشام وخلافه مع معاوية بن أبي سفيان.
ولما اشتدت فتنة عثمان رضي الله عنه، رأي عميد الأدب أن الرواة تزيدوا في بعض الأمور، وأثار العميد الكثير من الشكوك حول ما ينسب من أحداث إلى شخص عبدالله بن سبأ، موضحًا أن الرواة أو بعض الخصوم تعمدوا التزيد في أخباره وإلصاق العديد من الوقائع له لأغراض معينة في نفوس الخصوم، كما أن البعض نسب إليه أدوارًا بطولية لا تليق به.
مؤكدا أن دور عبد الله بن سبأ في فتنة الخروج على الخليفة الثالث -عثمان رضي الله عنه- أقل خطرًا مما يُقال عنه، كما أنه غير جدير بتأصيل مذهب الزهد عند الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، وأن الذين وضعوا تلك الأخبار له صعدوا به إلى منازل لا يرقى لها أبدًا.
وأشاد مؤلف "الفتنة الكبرى" بموقف الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أثناء اعتزاله الفتنة التي عصفت بالمسلمين في عصر الخلفاء الراشدين، حيث تناول سيرته بشكل سريع منذ إسلامه مع النبي مرورا بوضع عمر بن الخطاب اسمه بين الستة الذين اقترحهم لتولي أمر المسلمين من بعده، ثم عمله مع "عثمان" واحتجابه عن الناس لما بدأت الفتنة تزداد وتنمو.
يقول طه حسين: لم يكد يشارك في هذه المعارضة (معارضة عثمان) إلا حين كانت رفيقة لا تتجاوز النصح والأمر بالمعروف. فلما خرجت المعارضة عن طورها وقاربت أن تكون ثورة، كفَّ سعد ولزم الحياد، ولم يشارك في الفتنة ولا في أعقابها. وكان إذا كلم في ذلك وسئل: لِمَ لا تقاتل؟ قال: حتى تأتوني بسيف ينطق فيقول: هذا مؤمن وهذا كافر. وكأن سعدًا تحرج من أن يظهر النكير على عثمان، فيتهم بأنه إنما يفعل ذلك لأنه ينقم من عثمان عزله عن الكوفة.