حسن حنفي الذي رحل عن دنيانا منذ عدة أيام فيلسوف من فلاسفة العرب المهمّين، صاحب مشروعات فكرية كبرى من وزن سمير أمين وعابد الجابري وحسين مروة والطيب تيزيني وعبد الله العروي ومحمد أركون وغيرهم من المفكرين الذين وقفوا أمام ديناصورات التكفير وكل محاولاتهم الفاشلة لاسترجاع عصر مضى بصفته النموذج والمرجع للحاضر والمستقبل.
وكنت محظوظة في الثمانيات أن التقيت الدكتور حسن حنفي وأجريت معه حوارا إنصب على اهتمامي آنذاك بمولوده الجديد الذي يتضمن مقدمة مشروعه الفكري "التراث والتجديد" وقد اكتمل بعد ذلك في أربع مجلدات.
وتكررت بعد ذلك اللقاءات في التسعينات بين أحضان مكتبته في منزله والتي كانت قبلة للباحثين. ودارت الحوارات حول مؤلفه "من النقل إلى العقل" الذي يضم تسع مجلدات، ثم أزمة تلميذه نصر حامد أبو زيد.. عندما رفع ضده خفافيش الظلام قضية حسبة وفرقوه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس وكيف أطلقت الدكتورة هدى زكريا آنذاك حملة شجاعة ومثيرة للدفاع عن نصر حامد أبو زيد ضد الظلاميين بأن طلبته للزواج في تحد لإفشال محاولات تخويفهم للمستنيرين الذين يتصدون لهم.
ثم أجريت معه حوارا آخر عن كتابه " التفسير الموضوعي للقرآن" والذي واجه نقدا حادا لدرجة أن أحد شيوخ الأزهر نعته بـ "المرتد والملحد".
ربما كان هذا النوع من الصحافة الأدبية في تلك الحقبة يلقى اهتماما واسعا من القراء والجمهور وخاصة الشباب الباحث عن الطمأنينة. وكانت الجرائد تخصص صفحة أسبوعيا للصحافة الأدبية، كما كانت ولادة أخبار الأدب ترسيخا لهذا المناخ المتعطش للفكر والأدب والاستنارة.
وكانت توزع مئات الآلاف من النسخ في الدول العربية أيضا -وليس في مصر فقط- فتثري الحياة الفكرية في مقابل التيارات المتأسلمة العنيفة التي علت أصواتها ترويجا لبروباجندا مليئة بالمغالطات. وقد فتح حسن حنفي وأمثاله من المفكرين أمام عقولنا نوافذ متعددة الروافد لنفهم ونناقش وننقد حتى نتوصل إلى تشكيل نظرتنا نحو الوجود.
وعندما يطالع القارئ موسوعاته بما في ذلك موسوعة الحضارة العربية وحوار المشرق والمغرب فإنه لا يبقى نفس الشخص الذي كان قبل أن يقرأ له. لا أقصد هنا بالتغيير أن القارئ يتبنى أفكار حسن حنفي بل أقصد أنه يتعلم إعمال العقل بعد أن تختفي الصدمة الأولى تدريجيا ويقلّب الأفكار جيدا وربما ينتقي منها ما يقنعه أو ما يرفضه بعد فحص وتدبير.
وقد استوقفني في شخصية الدكتور حسن حنفي سعة صدره وإنصاته للرأي المخالف له قبل المؤيد له حتى لو بلغ النقد حد الهجوم والاتهام بالإلحاد أو تصنيفه بالخروج عن الدين أو حتى باليسار الإسلامي؛ كان يرد على المنتقدين بهدوء وتواضع ويقدم حججه برصانة دون أن يظهر عليه تذمر أو ضيق. ويعطي مساحة للمعارضين له بينما يستمع بعناية شديدة ويسجل ملاحظاته بشغف تلميذ مازال يتعلم. ثم يبدأ في الرد عندما يأتي دوره ويلقي بأسئلته التي تشعل الحيرة في العقول وتحفزها للمزيد من التفكير والبحث وكأنه لا يهدف فقط أن يصل بالمستمع إلى نتيجة قد تبدو شاطيء الأمان له بل أيضا إلى مزيد من الحيرة حتى يختار شاطئه بنفسه في نهاية الإبحار. وهو الطريق الذي يستلزم إعمال العقل وعدم تسليمه لأحد مهما كانت حيثياته، وهذا ما نحتاجه بشدة اليوم وغدا.
وعندما أرثي حسن حنفي فإنني أرثي مفكرا مهما أختلف مع أفكاره إلا أني أنحني لمدرسته في إعمال العقل وتحفيزه. لذلك يبقى في منزلة فريدة مع الفلاسفة والمفكرين والفقهاء الذين أفرزتهم الأمة داعين على الدوام بضرورة تجديد التراث الفقهي البشري وأن يكون العقل هو المرجعية في تأويل التراث.. وليس مثل أولئك الذين يطلقون على أنفسهم فقهاء وهم من أفرزتهم الرداءة والتخلف فملؤوا حياتنا بخرافات الحيض والنفاس وإرضاع الكبير وزيجات السياحة والمسيار والأطفال!
وليست مدرسة حسن حنفي الفكرية بعيدة عن جوهر المعارك القديمة التي دارت قديما بين ابن رشد وأبي حامد الغزالي والتي كانت صراعا للبقاء بين العقل والنص... فكتب الغزالي كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" أي تناقضاتهم واتهم الفلسفة بالفشل في إيجاد أجوبة شافية لمسائل الوجود الكبرى. ورد عليه ابن رشد بكتابه "تهافت التهافت"، وقام بتشريح كتاب الغزالي وإظهار عيوب منطقه، وانتصر ابن رشد للمنطق والعقل وقال عند اختلاف العقل مع النص الديني فإن علينا أن ننتصر للعقل لا للنص. والمهم في كل تلك المعارك التي غالبا لا تحسم أن يكون العقل حاضرا وألا يتم تسليمه "تسليم مفتاح" لكل من هبّ ودبّ، بل تسليح العقل بالتعليم والثقافة والقدرة على النقد لأن تقدم المجتمعات يحتاج مهمة نقدية دائمة وهي السبيل لمناعة المجتمعات وصد الباب أمام "ديناصورات" التيارات التكفيرية الإرهابية التي تعشش في الأدمغة فتلغمها بالخرافة والشعوذة فتنسفها نسفا، وتمجّد ماض مضى ولن يعود. وهي تقصد بذلك إلغاء عقل الناس والتصرف بالنيابة عنهم وكأن لديها توكيل عنهم لاستباحة حيواتهم بادعاء أنها خليفة الله فوق الأرض تصدر صكوك الغفران حسب أمزجتها فتكفّر هذا وتمنح الغفران لذاك!