لم يجرؤ مسؤول على أن يمد يده لتعديل العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر في الإيجارات القديمة، بينما يلف ويدور كل المسؤولين حول إنشاء آلاف الوحدات السكنية الجديدة، والظهير الصحراوي منعدم المرافق، وهو الأمر الذي نراه محدود الأثر والنتيجة.
وقبل سنوات سمح بتشريع بتحرير العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر في الوحدات السكنية - وهو ما يعرف بالإيجار محدّد المدة، أو الإيجار الجديد - وقد خلق هذا التشريع انتعاشة بسيطة في السوق العقاري، حيث شجع أصحاب الشقق المغلقة على فتحها وتأجيرها، وكانت تلك الشقق المغلقة تقدر بحوالي مليون وحدة سكنية تقريباً - حسب تقديرات خبير الإسكان الراحل الدكتور ميلاد حنا - ولأن المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء، كان وزيراً للإسكان قبل وقت قصير، فلا بدّ أن يكون هذا الملف قد صادفه، وفي ظني أنه خشي الاشتباك معه، حيث يحتاج هذا الملف الصعب إلى تفهّم وحسم، كما يحتاج إلى حوار مجتمعي عاقل وتعديل تشريعي منصف وشجاعة سياسية تحميه.
ويبقى السؤال: لماذا أفتح هذا الملف الآن ونحن في مرحلة انتقالية ولا يوجد لدينا برلمان أو نواب قادرون على الوصول إلى حلول تشريعية تحقق توازن المصالح بين السكان والملاك وتفتح مئات الآلاف من الشقق المغلقة ليعود دورانها في السوق العقاري كواحد من حلول أزمة الإسكان؟!.
أقول، مثلما امتلكت هذه الحكومة شجاعة طرح أراضي الدولة للبيع - وهي ميراث الأجيال القادمة - وطالما امتلكت شجاعة طرح مشروعات إسكانية جديدة في الصحاري المصرية، فليس صعباً عليها أن تحيل ملف الإيجارات السكنية القديمة إلى لجنة من خبراء الاقتصاد والإسكان والقانون، تشاركهم في ذلك منظمات المجتمع المدني، فعنصر الوقت - حسب تصريحات خبراء الاقتصاد - صار حاسماً في إنقاذ مصر من أزمتها المالية التي تعيشها الآن، ولذلك فمن المهم قبل البحث عن خلق أصول عقارية جديدة أن تتجه الحكومة نحو تشجيع الاستفادة من أصول عقارية قائمة بالفعل ومهدرة، سواء من الملاك أو من المستأجرين أنفسهم، فالمتابع القريب يرى بوضوح أن الغالبية من المستأجرين القدامى إما قد توفاهم الله أو هاجروا خارج مصر أو حصلوا على سكن بديل يمتلكونه الآن، وصارت تلك الوحدات ما بين مغلقة تماماً أو محلّ نزاعات يومية لقيام المستأجر بتأجيرها من الباطن وفق بعض التحايلات المعروفة بالضيافة، يحدث هذا تحت سمع وبصر المالك الذي يقف متفرّجاً ولا يجد لغة مشتركة مع الدولة أو المستأجر لترتيب مثل تلك الأوضاع.
ولعل المهندس إبراهيم محلب يتذكر معي أن من شعارات ثورتي يناير ويونيو كان في القلب منها شعار "العدالة الاجتماعية"، وهو في ظني ليس قاصراً على مسألة الحدين الأدنى والأقصى للأجور، ولكنه شعار شامل يعمل بجدية على حسم الأمور العالقة بين المواطنين ولا يترك مكاناً للبلطجة من أجل ما يراه البعض استرداداً للحقوق، وهذا الشعار الجذاب يدفع نحو الحوار المتحضر الذي يأتي بثمار مهمّة، ومنها - حسب وجهة نظري - سيادة القانون والحضور الفعال للدولة.
أعرف أن المشوار طويل، وأن هناك من يزعجه كلامي، وقد نتعرض لمزايدات في هذا الشأن، ولكن يبقى الحق أحق بأن يتبع، فبلادنا ليست فقيرة إلى الدرجة التي نرى فيها عائلات قد سكنت تحت الكباري، وكرامة شعبنا تفرض على الدولة أن يجد كل مواطن لنفسه أربعة حوائط وسقفاً، وما نطرحه في هذا المقال يتجه بشكل مباشر نحو العمل على زيادة المعروض لكي تقل الأسعار، فهذه المعادلة لا تحتاج عبقرية لفهمها.
لنبتعد قليلاً عن الحلول الروتينية في مواجهة مشكلاتنا، والواقع الجديد الذي تعيشه مصر يفرض على الجميع بذل الجهد نحو أفكار وحلول غير تقليدية، وكفى إهداراً للثروات القائمة، وكذلك كفى هدراً للثروات الطبيعية المتمثلة في أراضي الدولة التي تصرخ من سوء التخطيط ومن مافيا الاتجار بالمستقبل.