تزخر صفحات البطولة التى سطرها المقاتل المصرى فى حرب ٧٣ بالعديد من القصص التى تلهم الأجيال، لتظل مصدر فخر للأمة، فحكايات الفداء والتضحية لأبطال القوات المسلحة يتغنى بها الجميع، وكلمات الثناء والشكر لا تكفيهم، فهم خير أجناد الأرض، وهم من ضحوا بالغالى والنفيس من أجل وطنهم، أبطال لا يهابون الموت، ويرفعون شعار النصر أو الشهادة، أما الهزيمة فلا تعرف لهم طريقًا، وهذا هو حال العسكرية المصرية التى أثبتت، وما زالت أن وطنيتها وولاءها للشعب فى المواقف المصيرية، وأكدت القوات المسلحة صلابتها واستعدادها القتالى فى مواجهة الأحداث الداخلية والمؤامرات الخارجية.
وتحتفل مصر هذا الشهر بمرور ٤٨ عامًا على انتصارات السادس من أكتوبر ٧٣، الذكرى الغالية على قلوب المصريين، ذكرى الانتصار العظيم الذى سيظل محفورًا فى وجدان كل مصري، ليدعونا للفخر بالعسكرية المصرية التى رفعت أعلام النصر، وأنجزت بالإيمان والقوة والروح أسمى عمل عسكرى فى تاريخ مصر والأمة العربية.
وفى هذه الذكرى الغالية، تعرض «البوابة» نماذج لأبطال مصر لا يعرفهم الكثيرون، ولم يسمعوا أو يقرأوا عنهم كثيرًا، ومن هنا نلقى الضوء عليهم، لنؤكد أن أبطال مصر فى العقل والقلب والوجدان، ومنهم البطل عبدالمنعم الشناوي، الذى هبط بطائرته اضطراريًا فى فيينا.
التفاصيل رواها ابن البطل عبدالمنعم الشناوي، الطيار طارق الشناوي، والذى قال: «بداية هذه القصة تعود إلى حرب ١٩٥٦، حيث كانت طائراتنا المقاتلة من طراز «فامبير» الإنجليزية، وكان العدو يحاربنا بـ «السوبر مستير» الفرنسية، ومن هنا كان له التفوق الجوي، ولكن بعض طيارينا الأبطال أسقطوا بعض طائرات العدو، رغم هذا الفارق التسليحي.
وبعد ١٩٥٦، خرجنا من تلك المعركة بفكر يؤكد أنه لا بد من الحصول على طائرات حديثة متطورة لكى يكون لنا التفوق الجوي، ووجهت القيادة السياسية حينها بوصلتها إلى روسيا حتى يتم تزويدنا بطائرات «الميج ١٥»، وأعطت روسيا أوامرها لتشيكوسلوفاكيا لتزويد مصر بـ ١١٢ طائرة من طراز «الميج ١٥» الحديثة آنذاك، وتم الاتفاق والتنسيق على إرسال بعثة مصرية مكونة من ٥٢ طيارًا مقاتلًا إلى تشيكوسلوفاكيا فى يناير ١٩٥٧ بقيادة يحيى صالح العيداروس، وتضم كلًا من صلاح فهمى أبوالعينين، وصلاح المناوي، وعبدالعزيز بدر، وأحمد الدريني، وزهير شلبي، وعبدالمنعم الشناوي، وعلاء بركات، وأحمد نصر، وآخرين.
وسافرت البعثة فى يناير ١٩٥٧، ووصلت إلى قاعده «شاسلاف» الجوية، وبدأ الطيران والتدريب المستمر ليلًا ونهارًا، وبدأ طيارونا فى استيعاب «الميج» والطيران المنفرد عليها، وتنفيذ كل المهام التدريبية الموكلة إليهم.
وجاء يوم ١٤ مايو ١٩٥٧، وكلف الملازم أول طيار عبدالمنعم الشناوى بطلعة جوية فوق منطقة التدريب، وكان التلقين كالآتي، الصعود لارتفاع ١٥ كيلومترا، وعلى هذا الارتفاع يتم عمل مجموعتين من الألعاب الجوية ثم العودة والهبوط فى القاعدة، وأخذ الطائرة «الميج ١٥»، ونفذ التعليمات الملقنة له بالحرف، ولكن عند نهاية الطلعة وبدء العودة للقاعدة الجوية، وجد الشناوى أن مؤشر البوصلة المغناطيسية لا يعمل وهذا المؤشر يساعد الطيار على التوجه للمطار، فنظر للخارج فوجد أن السحاب ٨/٨ وهذا معناه أنه لا يرى الأرض، فبدأ ينادى باللاسلكى ورد عليه الرائد عبدالعزيز بدر: «إنت فين يا شناوى مش عارف، شايف إيه حواليك مش شايف حاجة، أعلى واكسب ارتفاع، أنا عالى يا فندم، اعمل دوران وقولى شايف إيه، وبعد مرور بعض الوقت، موش شايف غير سحاب».
وبدأ صوت «بدر» يختفى تدريجيًا، وأيقن «الشناوي»، أنه أصبح عليه أن يتصرف بما لديه من خبرة للنزول سالمًا بالطائرة، فبدأ بالهبوط بالطائرة ودخل فى السحاب، وظل فترة ليست بقصيرة بداخله، وخرج من السحاب فالتقط أنفاسه، ورأى منظرًا لم ينسه طوال حياته، حيث رأى أرضًا خضراء جميلة منبسطة، ومناظر فى منتهى الجمال والروعة، تشعرك بعظمة الخالق، وفجأة أضاءت «لمبة» الـ ٥٠٠، وهى «لمبة» حمراء تحذر الطيار بأن لديه ٥٠٠ لتر وقود فقط، وهذا معناه أن أمامه بضع دقائق قليلة ويتوقف محرك الطائرة عن الدوران.
ويواصل الطيار طارق الشناوى رواية حكاية والده البطل: «نظر «الشناوي»، إلى الخارج وبدأ يلف ويدور بحثًا عن أرض صالحة للهبوط الاضطرارى بالطائرة، وبالفعل وجد أرضًا ممهدة، وأنزل «العجل والقلابات»، وبدأ فى الاقتراب من الأرض والبدء فى الهبوط، وعند ارتفاع ٥٠ مترًا، رأى أمامه على بعد طائرة مدنية من طراز «دى سى ٦»، تستعد للهبوط فأيقن أنه فى مطار، ففتح الماكينة مرة أخرى و«لم العجل والقلابات»، واتجه ناحية الطائرة ووصل إليها، وعند ملامسة عجلات الطائرة الممر اضطر إلى النزول بجانب الطائرة على الممر الفرعى الموازي، وأوقف الطائرة وخرج إلى جانب الممر.
ويتابع: «فى لحظتها توقف محرك الطائرة عن الدوران لنفاد الوقود، فنظر حوله وفتح غطاء الكابينة ورأى مبنى المطار، وبدأ يقرأ ما هو مكتوب عليه، فوجد نفسه فى مطار فيينا الدولي، ففكر سريعًا وعرف أنه فى مطار دولة من دول الغرب، وأنه يقود طائرة روسية، فما كان منه إلا أنه قفز من الطائرة وبدأ فى الجرى متجهًا إلى سور المطار وقفز بالفعل، وخرج إلى الشارع، إلا أن الشرطة أحاطت به وتم القبض عليه، وسألته الشرطة من أنت؟ فكان الرد أنا محام مصري، فقبضت عليه السلطات النمساوية، وتم التحقيق معه ٤ ساعات كاملة حتى تدخل السفير المصري، وركب الشناوى طائرته «الميج» مرة أخرى بعد تزويدها بالوقود، وأقلع متجهًا إلى قاعدة «شاسلاف» الجوية بتشيكوسلوفاكيا، وهبط سالمًا، وتم استقباله من جميع زملائه وقادته استقبالًا حافلًا، وحملوه على الأكتاف لفرحتهم بعودته، وتم التحفظ على تلك الطائرة لأسباب سياسية، ولم تحلق فى الجو مرة أخرى، ووضعت فى معرض خاص بقاعدة «شاسلاف الجوية».
ويختتم يقول نجل البطل، الطيار طارق الشناوي: «فى ٢٢ سبتمبر ٢٠١٢، أى بعد ٥٥ عامًا قررت أن أزور قاعدة «شاسلاف»، لأرى الأماكن التى كان يطير فيها والدى الحبيب، وجناح الطيران وجناح العلوم و«ميس الأكل»، وكانت المفاجأة أننى وجدت الطائرة هناك والتقطت صورة إلى جوارها، ولا أستطيع وصف ما شعرت به أثناء تلك الزيارة التى كان لها أكبر الأثر فى نفسى».