ما دامت حياتنا لا تخلو من الدهشة فنحن بخير. هذا ما يقوله الفلاسفة وهو ما توقفتُ عنده منذ عدة أيام لدى مرورى على مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة. الدهشة منبعها الشعور الذى يتجلى فى الإنسان عند حدوث أمر لم يكن يصدق أنه سيحدث فى يوم من الأيام أو يحدث بهذه السرعة التى تحيل إلى حالة تنبه ذهنى ويقظة يتكثف فيها الحماس والتأمل فتلمع فى الذهن أسئلة جوهرية ومعها مشاعر دافئة وأمل خفاق.
وربما سر تضاعف دهشتى وراءه الطفرة التى لا تخفى عن الأعين لمواقع البناء والتشييد التى تتوسع بسرعة تفوق الخيال برغم مرورى المتكرر على تلك المواقع القريبة من سكنى لكن فى كل مرة هناك المزيد الذى يصنع الفارق. وخلال شهور قليلة ظهرت مشروعات عملاقة على أرض الواقع بالعاصمة الإدارية الجديدة فى أبهى حلتها كنت أتوقع أن تستغرق سنوات عديدة ومثلت مفاجأة سعيدة لى بكل المقاييس أحببت أن أشارككم انطباعى تجاهها.
شاهدت الحى الحكومي، والبرلمان، ومجلس الشيوخ، والمدينة الرياضية الأوليمبية، والمدينة الثقافية، وحى المال والأعمال، إضافة إلى مدارس وجامعات وأحياء سكنية عديدة ومتنوعة لشركات تخاطب شرائح مختلفة من فئات المجتمع، ناهيك عن الطرق ومحطات الكهرباء والمياه وشبكات الصرف والقطار الكهربائى الرابط بينها وبين مناطق القاهرة القديمة، والقطار السريع الذى يسير بمحاذاة العاصمة ويربط بين العين السخنة والعلمين وما بينهما من مدن. وبنظرة بانورامية لا بد أن تجذبك هذه المشروعات التى هى أشبه بخلية نحل يقودها آلاف المهندسين ونحو مليون عامل - بدون مبالغة- تراهم على امتداد البصر فى كل اتجاه؛ وتصنع مواقع العمل هذه «حالة» من الحركة الدؤوبة والإنجاز تبعث على الدهشة والغبطة والأمل!
وليس خاف على أحد أن العاصمة الإدارية الجديدة هى من أكثر المشروعات التى تتردد حولها الشائعات ومحاولات التشكيك المستمرة، من ذلك القول إن الدولة كان الأولى بها أن تستثمر وتضع هذه المليارات فى إصلاح التعليم والقطاع الصحى وإنشاء مصانع جديدة.. وهى بالمناسبة شائعات لم تعد تحقق غرضها لأولئك المغرضين أو للعقول التى يستهدفونها، ببساطة لأن حجم ما يتم إنجازه على امتداد الرقعة المصرية يخرس تلك الألسن المريضة ولأن العاصمة الجديدة هى أيضا استثمار فى الإنسان وصحته وتعليمه وبيئته بل وأخلاقه أيضا وهى أهداف متشابكة مترابطة كلها ذات أولوية قصوى. وقبل كل ذلك وجب دحض الشائعة التى يستند عليها باقى الشائعات والتوضيح أن العاصمة الجديدة هى مشروع استثمارى تماما ولا يوجد أى دعم حكومى للمشروع حيث إن المرحلة الأولى للمشروع يتراوح استثماراتها ما بين ٧٠٠ إلى ٨٠٠ مليار جنيه لم تكلف الدولة جنيهًا واحدًا، وكان عند بداية التفكير فى هذا المشروع قدمت إحدى الشركات عرضا تحصل بموجبه على نسبة ٧٦٪، فيما تحصل الحكومة على نسبة ٢٤ ٪ ويتم التمويل من البنوك المصرية. وتم العدول عن هذا الاتجاه.
الدولة حاليا موجودة نعم.. لكن فى فلسفة المشروع والتخطيط السليم له وفى الإرادة القوية المصممة على إنشاء «رئات-جمع رئة» ليتنفس المصريون بشكل صحى وسليم ويخرجون من الرقعة السكنية المحدودة حول الوادى التى ضاقت بهم وعليهم بنسبة كثافة وتركز هما الأعلى فى العالم مما خلق مشكلات أخرى صحية وبيئية واجتماعية وأصبحت مناطق ذات خطورة متفاقمة وعدم أمان خاصة على النشء الجديد.
وأتذكر فى هذا السياق عندما زرت ماليزيا والبرازيل فى بداية الألفية الجديدة وكلاهما شيد عاصمة جديدة بنفس الدوافع التى نراها الآن فى الواقع المصري، وكيف كان خيالى يسرح ويحلم بالمثل لمصر وذلك خلال الجولات فى عاصمة ماليزيا الجديدة بوتراجاى (Putrajaya)، التى انتقلت إليها الحكومة من كوالالمبور وعلى بعد خمسين كيلومترا منها، وفى مدينة برازيليا عاصمة جمهورية البرازيل الجديدة التى ورثت «ريودى جانيرو» التى ظلت عاصمة للبلاد لمدة ١٢٥ عاما واكتظت واختنقت وأصبحت بعض أحيائها وكرا للجريمة والمافيا! ولا أنسى ما ذكره مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق وبانى نهضتها الحديثة (١٩٨١-٢٠٠٣) حول المشروعات العملاقة التى خطط لها ونفذها وكيف صاحبها جدل واسع وواجهت التشويه والتشكيك والشائعات وأنه عندما جلس فى مكتبه الواقع بأحد برجى بتروناس التوأم، فى الدور الـ٣٢ بعد أن ترك الوزارة، أصبح ينظر لتلك التحديات التى كان يواجهها من نفس العلو الذى يجلس فيه حاليا فتظهر صغيرة تافهة وكأنها لا تذكر مقارنة بما تم إنجازه. وقال أيضا: إنه عندما راجع الكتب التى تتحدث عن المشروعات القومية فى الأوطان النامية التى تنقل شعوبها قفزات إلى الأمام نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وجد أنها عادة ما تتعرض للهجوم والنقد (الداخلى والخارجي) ويغلب على النقد أنه مغرض وغير موضوعى عند مرحلة طرح تلك المشروعات وخلال مراحل تنفيذها. لكنها تصبح علامات فارقة و«أيقونات» للتقدم والرقى عند تنفيذها وبعدما أن تدرك الأجيال اللاحقة الأثر الذى تركته مثل هذه المشروعات على أوضاعها وكيف غيرتها نحو الأفضل. ولم يفت مهاتير أن أعطى مثالين، واحد من بلده ماليزيا وآخر من مصر التى كان يعشقها ويستلهم منها العديد من الأفكار والأحلام لشعبه. أما الأول فهو العاصمة الجديدة بوتراجاى وكيف ردم مستنقع المياه الراكدة الذى كان مصدرا للتلوث والأمراض لشعبه وحوله إلى عاصمة حديثة وصديقة للبيئة والإنسان ومحتضنة للتكنولوجيا والعلوم والطاقة والنقل الحديث فى كل مشروعاتها. أما الثانى فهو بناء السد العالى فى القرن العشرين فى مصر، وما واجهه من تحديات وهجوم ونقد وكيف أصبح علامة فارقة فى تاريخ التطور الحضارى لمصر بعد سنوات من إنشائه، بل وعلامة للشعوب الساعية للنهوض والتقدم ومحفزا لها على عدم وجود مستحيل أمام تخطيها الصعاب نحو المستقبل طالما توفرت الإرادة لذلك.
إذن، فلنهنأ بمشروعاتنا ونفخر بها ولا نعير أى اهتمام لهجوم أو تشويه لأن ذلك ليس بالأمر الجديد وواجهته دول أخرى أيضا، وهو يعبر عن تفكير سلبى مزمن، أو مكايدة وغل يعكسان عجزا لدى الخصوم والأعداء غاب عنهم الحرص على المصلحة القومية من منظور وطنى استراتيجي.
ولا يزال هناك ما يمكن أن يدهشنا ويجعلنا دائما بخير طالما هناك أدمغة وسواعد مصرية من سلالة الفراعنة قادرة على التميز والإبداع والإبهار!