السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لا تخنقوا الإبداع.. اتركوا الـ"ريش" يطير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

ما رأيكم دام فضلكم فى ما يحدث هنا وهناك؟
بعيدًا عن أى غموض، تعالوا ندردش «شوية»، لعلنا نصل إلى سواء السبيل، ونستطيع أن نحدد خطانا بثبات على الطريق.
تعالوا نفكر معًا: نشر أحدهم صورة لأحد الشوارع وهو غارق فى مياه الصرف الصحى، وصار عبوره «للمشاة وللسيارات» مشكلة مستعصية يقف أمامها الجميع عاجزين.. فيخرج البعض مهللًا  صارخًا مهددًا: «ما هذه الصورة؟!.. لا تسيئوا إلى سمعة مصر!».. لا شك أنك تتعجب مثلى، فمن ذا الذى يسيىء إلى سمعة مصر ويشوه صورتها؟.. المواطن نشر صورة للواقع المسؤول عنه بمنتهى الوضوح السلطات المحلية فى المحافظة أو الحى التى تركت المجارى تطفح وتقرف الناس فى حياتها، وبدلًا من أن يزايد البعض على خلق الله فليتوجه باتهاماته عن تشويه السمعة للمتهم الحقيقى وهو السلطة المحلية.
وقس على ذلك الكثير.. تنشر صورة لسيارة انقلبت فى حفرة عميقة على الطريق ولقى كل من فيها وجه ربهم الكريم، فتنطلق «جعورة» المزايدين ويتهمون ناشر الصورة بالإساءة لسمعة مصر، ولا يوجهون ولو «همسة عتاب» للمسؤول عن الطريق وصيانته.
دائمًا للأسف، هؤلاء المزايدون أو الباحثون عن دور أو قل الجهلة أو عديمو المعرفة أو الذين لا يمتلكون ذرة من الثقافة النقدية والثقافة بشكل عام.. هؤلاء وبال على أى أمة وخطر على حاضرها ومستقبلها وعقلها أيضًا.
أعود بالذاكرة إلى سنواتٍ بعيدة.. عندما صنع المخرج القدير يوسف شاهين فيلمه «القاهرة منورة بأهلها»، هاجت الدنيا وماجت ووصل الأمر إلى المطالبة بسحب الجنسية من مبدعنا الرائع، وذلك تحت «الكليشيه» الجاهز فى ذلك الزمان: «إنه يسيىء لسمعة مصر»، وهو السلاح الذى اعتاد كثيرون إشهاره ضد كل إبداع حقيقى.
وقتها، كتبت أن الذى يشوه سمعة مصر ليست الوقائع الحقيقية التى وردت فى الفيلم، فوجهوا سهامكم «إن كنتم تحبون مصر فعلًا» إلى كل مسؤول فى بلدنا عن هذه الحياة البائسة التى يعانيها فقراء مصر وشبابها الباحثون عن مكان تحت الشمس.. وأتذكر آنذاك أن حزب التجمع أعلن تضامنه مع يوسف شاهين وعرض الفيلم فى حضور مخرجه وسط حشد جماهيرى إمتلأت به القاعة الرئيسية للحزب، وللتاريخ أيضًا لا أنسى دور نقابة الصحفيين فقد أعلنت عن رفضها للهجوم الكاسح على يوسف شاهين وعرضت الفيلم فى قاعة النقابة تحت إشراف الصديق الناقد طارق الشناوى.
لعل كثيرين منكم يتساءل: لماذا تكتب هذا الآن وإلى أين تريد أن تذهب بنا؟
الحق معكم فى السؤال، والحق أقول لكم: عادت تهمة «الإساءة لسمعة مصر» من جديد بعد أن عفا عليها الزمن ولم يعد لها أية قيمة بحكم التطور السريع فى الميديا وأدوات التواصل بين البشر فى أنحاء العالم الذى صار قرية صغيرة نلفها كلها فى ثوانٍ معدودات.
عدد من الباحثين عن «شو إعلامى»، انسحبوا أثناء عرض فيلم «ريش» بمهرجان الجونة المنعقد حاليًا، وكانت الكلمة الأثيرة على لسان معظمهم: «إنه يسيىء لسمعة مصر» ليصبح الخبر تريند ما بعده تريند بعد أن اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بما حدث. 
هذا الاتهام «المعلب» نوع من الإرهاب الفكرى الممجوج، والذى قد يسبب إحباطًا أمام أى مبدع حقيقى يشق طريقه بحبٍ وإخلاص للوطن وللمهنة.
وهذا الإرهاب الفكرى، للأسف مارسه للتو ممثلون دون أن يدركوا أنهم معرضون للهجوم عليهم للسبب ذاته أو لسبب قريب منه، ودون أن يدركوا أنهم «بصورة أو بأخرى» يضعون أنفسهم فى سلة واحدة مع كارهى الفن وأعداء الإبداع من تيارات ظلامية تضمر كل الشر لبلادنا، ودون أن يستوعبوا أن هذا الاتهام أصبح موضة قديمة لا تنطلى على أحد فى هذا الزمان.
ولكن ماذا عن فيلم «ريش» وإيه حكايته؟
الفيلم فاز بالجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولي في الدورة الرابعة والسبعين لمهرجان كان السينمائي بفرنسا، التى انعقدت يوليو الماضى. ويمزج الفيلم بين الواقع والفانتازيا، إذ يتناول قصة أب يقرر إقامة عيد ميلاد ابنه فيحضر ساحرا لتقديم بعض الفقرات المسلية للأطفال، وفي إحدى الفقرات يدخل الأب في صندوق خشبي ليتحول إلى دجاجة، ويعجز الساحر عن إعادته مرة أخرى لطبيعته البشرية ويبقى الأب في هيئة دجاجة.
وتستمر مفارقات الفيلم لتلقي بظلال من النقد الساخر على مشكلات اجتماعية واقتصادية وكذلك أوضاع المرأة المعيلة [أليست هذه مشكلات حقيقية فى المجتمع خلقتها الحكومات المتعاقية على مدى سنوات طويلة؟].
بمجرد إعلان قرار مهرجان كان، احتفى مهرجان القاهرة السينمائي بالفيلم، وأصدر بيانا هنأ فيه صناعه ومخرجه الشاب عمر الزهيري «لتحقيقه إنجازًا كبيرًا للسينما المصرية، إذ يعد هو أول فيلم مصري يفوز بهذه الجائزة».
اليوم.. تعرض الفيلم لهجوم كاسح فى الجونة.. اختلفوا يا سادة مع رؤية المخرج لكن لا تحملوا معاول هدم لتقتلوا موهبة جديدة فى السينما المصرية، قدم صورة لواقع حقيقى ولم يجر وراء مشاهد الهلس والعنف التى تزخر بها أفلام المرحلة الحالية.. ناقشوا الفيلم من خلال نظرة موضوعية.. إذا كنتم تمتكلون تلك النظرة.
أتعجب من أحد الفنانين الذى قال بمنتهى الثقة: «مش دي مصر اللي نعرفها!».. ومنذ متى يعرف هذا وأمثاله مصر الحقيقية التى لا تمت بصلة لمصر مارينا وأخواتها؟.
وفى تناقض صارخ، واصل هذا الفنان كلامه قائلاُ: «لازم تختفي مثل هذه الصور لأننا نرى الآن عشوائيات تتحول إلى مساكن لائقة والجميع يلمس هذا الأمر على أرض الواقع».. نعم ياحبيبى، كلنا نشهد ذلك [أليست هذه العشوائيات هى التى تناولها الفيلم ولم تكن من إختراعه؟].. كلنا نعلم أن ما يحدث الآن على أرض مصر هو عمل جاد وحقيقى للقضاء على مظاهر حقيقية على أرض الواقع تعكس حياة البؤس التى يحياها كثيرون.. هذا واقع نحياه ولولاه ما كانت مشروعات «حياة كريمة» بكل تشعباتها فى بر مصر.
لو أننا سايرنا هذا التفكير المعوج، فهذا يعنى أن نحرق أشرطة أفلام عديدة فى تاريخ كلاسيكيات السينما المصرية.. هل ينفع يا سادة نحرق شرائط أفلام مثل «الحرام» و«الزوجة الثانية» و«النداهة» و...إلخ؟ «شوية عقل» مطلوبة ياحضرات.
ارحموا عقولنا، واتركوا المبدعين الحقيقيين يشقون طريقهم ويفتحون لنا نافذة بيضاء نتنسم من خلالها الإبداع الحقيقى بكل تجلياته ولو كره الكارهون.