تخيل معي عزيزي القارئ، أن هناك بنكًا لديه مليون عميل، ولكل عميل متوسط 10 عمليات شهريا، ومطلوب -كوظائف أساسية جدًّا لأي بنك- أن يقوم البنك بإعداد القوائم المالية والحسابات الدورية على هذه العمليات من خلال موظفين يعملون يدويًا؛ أي باستخدام الأقلام والأوراق، وبتقديري فإن هذا يحتاج لعمل ما لا يقل عن 5 آلاف موظف بشكل متواصل لمدة 8 ساعات يوميا، على مدار الشهر كله، أي ما يزيد عن مليون ساعة عمل، وبمعدلات أخطاء كارثية عالية، هذا بخلاف أن تسجيل هذه العمليات وتقاريرها، سيتطلب الاحتفاظ بأطنان من الأوراق، يجعل الاستفادة من هذا المعلومات فيما بعد أشبه بالكابوس، فمثلا لو أراد موظف بعدها البحث عن عملية من خلال معلومة غير واضحة عنها، فقد يستغرق الأمر شهورا من البحث حتى يتمكن من الوصول إليها، وقد لا يصل أبدًا!
حسنًا، الخبر السعيد هنا، أن حاسب آلي واحد يستطيع القيام بكل هذا في خلال ثوانٍ، بلا أخطاء تقريبا، بدون مجهود بشري يذكر سوى المتابعة والتشغيل، وهذه هي أهمية الرقمنة في أبسط صورها، وهي إعطاء جزء كبير من مهام عملنا إلى الحاسب الآلي للقيام بها، والاعتماد على قدرات الشبكات الرقمية على تداول المعلومات.
والأعمال الرقمية لم تعد متوقفة على الحفظ والبحث والحسابات فقط، بل وصلت إلى توظيف الذكاء الاصطناعي، والتي جعلت للحاسب قدرات الدخول في مناطق التفكير بل والإبداع أيضًا.
هذه الآلة التي هي باكورة التطور الإنساني، وتمثل المساعد الأمثل للعاملين في كل القطاعات والوظائف تقريبا، من صناعة وطب وهندسة وإعلام وأمن.. وصولا إلى مساعدتنا في الحياة الشخصية من خلال جهاز الهاتف المحمول الذكي الذي في أيدينا، وما هو إلا حاسب آلي صغير.
في وقت قريب لم يكن الحاسب الآلي موجودًا، أو كان وجوده محدودًا جدًا، لكن هذه هي الحقيقة: الحياة بدونه الآن قد تتحول إلى ما يشبه الكابوس، فهو اللاعب الرئيسي للنهوض بكافة المجالات، وتحسين جودة الخدمات والحياة العامة.
يكفي أن توقف خدمات شركة واحدة منذ عدة أيام، لساعات قليلة جعلتنا نشعر بحالة من الشلل والارتباك على المستوى العملي والشخصي.
قد نكون متأخرين بعض الشيء في تطبيق الرقمنة، لكن ما لا يعرفه الكثيرون، أن الدولة تعطي أهمية قصوى للانتقال إلى الخدمات الإلكترونية والحوسبة بجانب النهوض بالمجالات الأخرى، وتعي جيدًا أهمية الرقمنة لتحقيق التقدم، وهي ليست بالأمر اليسير، حيث إنها تحتاج لدراسات كافية ولخبرات عالية قبل اتخاذ أي تحول جديد، ناهيك عن أن كثيرا من المستخدمين (وهم المستهدفون من أي خدمة) خاصة من كبار السن ليسوا على الثقافة الكافية لاستخدام التقنيات الحديثة.
وبجانب أن الخدمات الإلكترونية تم تطبيقها مؤخرًا بشكل ما من خلال وزارات مثل الصحة والداخلية والإسكان والتربية والتعليم وغيرها، إلا أن الخطوة الأخيرة أكبر حجمًا وتدل على اهتمام الدولة بالتحول للخدمات الرقمية، حيث شرعت وزارة الاتصالات بتطوير وتشغيل إنجازًا جديدًا لم يأخذ حقه في الإعلان، إنها بوابة "مصر الرقمية"، وهي بحسب تعريفها على الموقع الرسمي لها: "موقع وتطبيق هاتفي لتسهيل الوصول للخدمات الحكومية على المواطنين المصريين".
بعد أن تعاملت مع البوابة بشكل تجريبي، وجدت أن البوابة على مستوى عالٍ من التنفيذ، وجودة تتوافق مع أحدث التوصيات العالمية وسرعة تصفح وتشغيل لافتة للنظر، وهي تقريبًا تقدم للمواطن كل ما قد يحتاجه من خدمات حكومية بضغطات بسيطة سهلة، في عملية استخدام ممتعة.
البوابة أُطلقت بعنوان: digital.gov.eg، وتخدم المواطنين في خدمات تخص كلا من الأحوال المدنية، التموين، التوثيق، القضايا، الرخص، المحاكم، الضرائب والتأمينات، فهي تغطي كل ما قد يحتاجه المواطن من خدمات تستغرق مشاوير متعبة ووقوف في طوابير انتظار طويلة مليئة بالضوضاء، أصبح ممكنًا من هذا "الإنجاز الرقمي" توفيرها في ثوانٍ بضغطة زِرْ من مكانك وأنت في بيتك.
وفي إحدى صفحات الموقع، أعجبني كثيرًا مقدمة الرد على أحد الأسئلة الشائعة عن الأوراق المطلوبة، فكان الرد:
" الاستغناء عن المستندات الورقية هو هدفنا فى بوابة مصر الرقمية....".
عمل رائع يعي أهدافه جيدًا، وتطور في الطريق الصحيح نحو الارتقاء بالمستوى المعيشي للمواطن، فيه حرص على جودة ما يستفيد به وباحترافية عالية، هذه هي مصر.. الجمهورية الجديدة التي لا مكان فيها للفشل.
"رقمنة إيه والأسعار قاعدة تزيد..!"
قد لا يتصور البعض أن الاعتماد على التطور الرقمي سيعود بالنفع على الكل ويرفع من المستوى المعيشي للجميع، وليس على فئة بعينها، ولكن كيف؟
على أبسط المستويات تحسن "ميكنة النظم" من إدارة الموارد بصفة عامة، وأهمها المورد البشري ورفع كفاءة الإنتاج في جميع المجالات ودعم اتخاذ القرارات المناسبة، وبشكل أبسط فهي تساعد صناع القرار على تعظيم الاستفادة من القوة البشرية وتنظيم المجهود المطلوب منهم، وتسهم في رفع كفاءة الإنتاج الصناعي والزراعي وأكثر من ذلك كثير.
لا تسعني المساحة هنا كي أستفيض في هذه النقطة بالتفصيل، إلا أنه من المؤكد تأكيدًا قاطعًا أن اهتمامنا بالتطور الرقمي (الذي هو حتمي في الأساس) سيسهم في تحسن المستوى المعيشي للكل بلا استثناء، لكن ذلك لن يتحقق بين ليلة وضُحاها.